الحافة.. جارة السلطان والبحر

علي بن سالم كفيتان

زُرت المكان (الحافة) وأنا صبيٌّ في مُنتصف سبعينيات القرن الماضي.. كان يعج بالحياة، وكعادتنا -أصحاب المواشي- نتوجه بما معنا إلى سوق الماشية الرابض بجانب البساتين، فكم تُمتعني معزوفات المضخات المائية التي لا تصمت من الحقول المجاورة هناك.. حركة بيع وشراء، وغالبا ما ننتهي قبل الضحى، فنزور حي الحلاقين، لنهذّب أنفسنا من وعثاء الحياة القاسية في الريف.

ستجدُ خلف حي الحلاقين حيَّ استوديوهات الأشرطة السمعية، ومنها استديوهات النوبي والراعي؛ هناك يصدَح أبو بكر سالم وأيوب طارش والحارثي ومحاد الفهد وعمر جبران بأحلى نَغَم في تلك المرحلة، فيتمُّ التزوُّد ببعض الأشرطة، وغالبا -نحن الريفيين- نميل لجديد محاد الفهد وأيوب طارش.. ستأخذك بعد ذلك أقدامُك إلى حيِّ المطاعم؛ فرائحة الوجبات الشرقية تفوح من بعيد، وستكون لديك كل الخيارات مفتوحة بين المطبخ الهندي والباكستاني، وبعدها ستجد بائعَ النارجيل يقصفُ بجزرته غطاء الثمرة، ويمنحك أحلى مشروب يُمكن أن تذوقه في هذه الأنحاء من جزيرة العرب.

وعلى جدار سينما الأحقاف، ستجد صورًا دعائية لأفلام المَساء؛ ومعظمها هندية، وبطلها الأوحد هو أميتاب باتشان، نمرُّ عليها مرور الكرام، لنتوجَّه الى السوق الشعبي المكتظة أرصفته وحواريه بالبائعين المتجولين، الذين يفترشون الأرض، ويعرضون ما يخطر على بالك، وما لم تكن تتوقعه؛ فهم كبار في السن، رجالا ونساءً وأطفالًا. أما رائحة اللبان، فتقودك إلى تلك المرأة الجالسة في هدوء على مدخل محلها المرصوص بالبضائع العطرية، ولن تَجِد حَرجًا في الشراء، والسعر سيكون مناسبا لكل الجيوب؛ فالناس هنا تعرف كيف تكسب الريال. سيكون الحي الأخير هو حي الملابس، الذي يتوسطه محل بن عسكر وفضل الذيب.. هناك تهفو النفس للمصرّات المطرزة بأنامل النساء، والسباعيات المزهوة بألوان تنبض بالحياة، وثياب النساء الفضفاضة بألوانها الجريئة؛ كل ذلك كان يجري في سوق الحافة قلب المدينة النابض، ومقر الحكم في حاضرة الجنوب: صلالة، قبل 45 عامًا ونيف، واستمرَّ هدير تلك الحياة حتى هدم كل شيء قبل عدة سنوات.

كان بحر العرب يجُور أحيانًا فيقفز الشارع البحري ليروي بساتين النخيل، وكان هناك صيادو السمك ينظفون قواربهم وينولون شباكهم على الرمال، وقت الخريف؛ فهو موسم الصيانة وموسم الاستعداد للفتوح، كما يسمونه هنا "موسم الصرب". وعندما تمر على حارة الحافة القديمة ببيوتها العالية وشرفاتها المنمَّقة ونوافذها المطرزة بالرسم على الزجاج، ستَجِد نفسك في عالم آخر يتحدث عن نشوء حضارة ووجود أناس عظماء بنُوا وشيَّدوا؛ فصارت مدينتهم القديمة تلك مقصدَ كل من ضاقت به السبل؛ فاستضافت الحافة القاصي والداني، وظل شيوخها ووجهاؤها يفتحون الأبواب، ويكرمون الضيف، وينصرون المظلوم، لذلك ظلت الحافة هي القلب الرحيم لكل من توجه إليها؛ فمنها خرج تجار وعلماء ورجالات دولة وأصحاب سنن البحر، وأعراف اجتماعية وضعت لكل إنسان موقعه، واحترمت إنسانيته، فعاش فيها عيشًا كريمًا.. لقد جاورت الحافة السلطان والبحر؛ فباتت هي خارج المكان، وبقي القصر والبحر شاهدين وحيدين على فقدانها.

لا ندري من المسؤول عن هذا القرار، ومن صوَّغ له ثم ترك الحافة أثرا بعد عين؟! وسلب المدينة قلبها، وتركها بلا هُوية؟ فاليوم يذهب الزائر إلى هناك ليجد كبرات من القرن الماضي وساحلًا ممتدًا؛ كأن لم يطأه بشر، وأحياء أثرية عريقة تتهدم في صمت، ولا أحد يحرك ساكنا.

سمعتُ بالأمس القريب صيحات أبناء الحافة، وعرفتُ ما حل بهم وبها عبر لقاء مع إحدى الإذاعات المحلية، صاغ فيه أحد أبنائها ألمه وحزنه، وتكلَّم بحُرقة لا يفهمها إلا من أحبَّ الحافة وعاش مع أهلها الكرام الطيبين، بمختلف مكوناتهم الاجتماعية، ومشاربهم القبلية. ذهبتُ ذلك المساء فوجدتُ أن ما حلَّ بالبليد قد حلَّ بالحافة، ولا فارق بينهما؛ فكلاهما أصبح أطلالًا، وربما نال الحافة من الجوار ما نال البليد، لكن المؤكد أن الحافة لم يقتلعها إعصار ولم يضربها زلزال؛ بل غزتها عقول لا ترحم فهدمت بيوتها ورُحِّل إنسانها وتُركت تئن تحت ذلك النكران.