خالد بن الصافي الحريبي
كان هاتفٌ أحمرٌ فاقعٌ لونه يسر الناظرين، ولون هذا الهاتف الذي رأيت صورته في زيارة لإستونيا لم يكن أحمر لأنه هاتف يُوصل رسائل عيد الحب الفالانتاين، بل لأنه كان الهاتف الذي يتلقى عبره رئيس إستونيا الأوامر والتعليمات من موسكو منذ 1920، وعلى مدى سبعين عاماً لغاية اليوم الذي شبّت فيه هذه الجمهورية البلطيقية ذات الـ 1.3 مليون نسمة عن الطوق، واستقلت عن الاتحاد السوفييتي في العام 1991.
أما اليوم، فتستقبل تالين عاصمة إستونيا، وفوداً من جميع دول العالم لتشهد الهوية المُتجددة التي تضامن الإستونيون بقلوبهم وعقولهم ودمائهم وعَرَقهم لتسخيرها لتنقلهم من ضيق سياسة الهاتف الأحمر إلى رِحاب أرزاق الاقتصاد الرقمي المبني على المعرفة والبيانات وقِبلة الاستثمارات الرقمية الفُضلى في العالم، متفوقة على جاراتها الأكبر حجماً والأكثر مالاً في إسكندنافيا والبلطيق وشرق أوروبا. فما قصة سِرِهم الذي مكّنهم من صناعة معجزتهم؟
المافيا الإستونية
ولأنَّ بداية المعجزة ابتلاء؛ فقصة تفوّق إستونيا في جذب استثمارات الاقتصاد الرقمي بدأت بخذلان ولكنها تطورت اليوم مع مجموعة تنافسية تقودها حوالي ثلاثين شركة ناشئة رائدة عالمية مقرها في إستونيا، منها خمس شركات مما يطلق عليها في عالم الاستثمار الجريء وريادة الأعمال أحادية القرن أو يونيكورنز تشبيهاً بالمخلوق الخيالي الخارق، أي أن قيمتها السوقية تتجاوز مليار دولار أمريكي على الأقل (المليار ألف مليون دولار أي تسعة أصفار). وهذه المجموعة التي أصبحت عصب الاقتصاد الرقمي مفتوحة لانضمام أي شركة تحقق أربعة معايير شفافة: تحقيق نمو سنوي يتراوح بين ٨٠-١٠٠ بالمئة، وأن يتجاوز دخلها السنوي ٣ ملايين يورو أو تنجح في جذب استثمارات تتجاوز ٥ ملايين يورو، وأن تتجاوز الضريبة التي تعيدها لخزينة الدولة ١٠٠ ألف يورو كل ربع سنة، وأن تستثمر في مبادرات مجتمعية تخصصية تُسهم في غرس ثقافة ريادة الأعمال في المجتمع. ويُطلق على هذه المجموعة اليوم "المافيا الإستونية" بفخر بعد أن لاحظ مستثمر أمريكي جريء أن مثابرة شباب إستونيا في فعاليات ريادة الأعمال الدولية منحت وطنهم هوية جذابة ونتائج استثمارية مجزية.
ومنذ أن بدأت إستونيا طريق الألف ميل حتى هاجمتها المنظمات الروسية وخذلتها الشركات الأمريكية وجيرانها المنافسون؛ ونجحت في تحويل كل مِحنة إلى منحة، وأسست نِظاما رقمياً موحداً بسيطاً بالإكس رود (X-Road) يُيسر للمواطن تخويل الحكومة والقطاع الخاص صناعة ثروة مبنية على اقتصاد المعرفة والبيانات.
أما اليوم، فعندما تزور "تالين" تُدرك منذ أول حوار حين وصولك المطار أو الميناء أنَّ العمل كمنظومة أصبحت قيمة مغروسة في ثقافة المواطن الواعي بالقيمة المحلية المضافة لكل منتج وخدمة تتطلع إليها توفره شبكة مترابطة من الشركات الناشئة والصغيرة والمتوسطة الوطنية. والأهم في هذه المنظومة هو أن الحكومة تُيسر لها الأرضية الخصبة والحوكمة للنمو، وتيسير طريق النمو هذا هو ما يُمكّن الصناعات الصغيرة والمتوسطة من تحريك عجلة الاقتصاد ويغذي إيجاد فرص العمل والأعمال وينمي اقتصاداً أكثر استدامة وبصورة تضمن للمواطن والمُقيم حياةً كريمة.
فعلى سبيل المثال؛ عندما تسأل سائق الأجرة عن حاله؛ سيُخبرك عن واقع حياته اليومية التي بسّطتها شركات ناشئة وطنية. فمثلا سيارته "التيسلا" تديرها شركة المواصلات الناشئة الخاصة "بولت" والتي تستثمر فيها شركات عالمية مثل مرسيدس الألمانية، وأنه حصل على أول عمل له مع شركة "سكايب" لاتصالات الفيديو والتي اشترتها مايكروسوفت، وكيف أنَّه يستخدمها اليوم في التواصل مع أهله ومن يريد، وأنه ككل إنسان حول العالم يستطيع أن يؤسس ويدير شركة في إستونيا الأوروبية من أي قارة في العالم بحوالي 100 يورو خلال حوالي 10 دقائق وتُديرها له شركة مثل "تشولو"، وسيفتخر بأنَّ كل تعاملاته أنجزها وهو في بيته عن طريق نظام طورته شركة ناشئة عملاقة مثل "نورتل"، وهي بالمناسبة الشركة التي تدير مشاريعنا وبياناتنا الوطنية الخاصة بالعمل والتجارة- استثمر بسهولة والضرائب وغيرها. كما سيقص عليك سائق الأجرة كيف أن كل تعاملاته المالية أصبحت أيسر وكلفتها معقولة مع خدمات شركة "ترانسفيروايز" للتقنية المالية وأن طلباته تصله للبيت عبر مركبة روبوت صغيرة لشركة "ستارشيب" للتوصيل، وأن كل بياناته محمية بأنظمة شركة "سايبرنتيكا" للأمن الإلكتروني وأن دخله يتحسن بفضل متاجرته بالعملات الرقمية المعترف بها من البنك المركزي وبَنت أنظمتها شركة "جواردتايم" لسلسلة الكتل أو بلوكتشين، وأنه أستكمل مشاركته في عدد من البرامج التدريبية والفعاليات والمؤتمرات التي نظمتها رقمياً شركة "آيدنتيفاي"، والعشرات من الأمثلة الأخرى غيرها.
بين المافيا الإستونية والعصبية العربية
من الثابت عبر أحسن قصص الأمم عبر التاريخ أن فلاح الأمم أو هلاكها، مرده إلى صدق نيتها في التضامن لتحويل ما حباها الله به نِعمٍ إلى عُمران، كما ورد في فِكر العلامة ابن خلدون، ويعني بها مكاسب اجتماعية وسياسية واقتصادية مستدامة. فمثلاً نجحت دولة مثل إستونيا عبر مأسسة تضامنها بينما لا يختلف حال معظم دول جامعة دولنا العربية عن حالنا في زمن نشأة كلمة "مافيا" بعد سقوط الأندلس. وتبدأ هذه القصة باتفاقٍ كان واضحاً؛ يدفع الركاب من عائلات الأندلسيين المسلمين واليهود؛ الذين ترددوا في مأسسة التضامن فيما بينهم فأُخرجوا من دِيارهم ظُلماً صاغرين، فدفعوا بكل ما لديهم مسبقاً للربان في الميناء وفي المقابل ينقلهم الربان وطاقمه إلى ميناءٍ مُحددٍ مسبقاً. ولكن تأتي الرياح والنفوس الخبيثة بما لا تشتهي السفن، فما إن تغادر بعض السفن أرصفتها حتى يُلقوا بركابهم من الأندلسيين رجالاً ونساءً في ظُلمات أمواج البحر الأبيض المتوسط المتلاطمة. هذا ليس مشهداً في قصةٍ خيالية ولكن مقطعاً من أحداثٍ حقيقيٍة موثقةٍ تُسمى بحروب الاستيرادات، وصلت ذروتها خلال العام 1500- 1600 ميلادي. ومن لم يُلقَ في عرض البحر أسرته بعض السّيارة وباعوه بثمن بخس في موانئ جنوب إيطاليا وفرنسا اليوم. لكن قِلةً من الناجين قاوموا وتخّفوا في كهوف ومرتفعات جزيرة صقلية، وشيئاً فشيئاً نظموا أنفسهم في منظمات خارجةٍ عن القانون ما لبثت أن أصبحت منظمات إجرامية يُنكر السُكان الذين ذاقوا الأمريّن من قبل أي وجود لها. فكل ما سُألوا عن إن كان أحد يتخفى في كهوف ومرتفعات صقلية أجابوا "ما في" أو "مافيها".
ولا يزال التاريخ يُعيد نفسه؛ فبعض الدول بدل من أن تُمأسس مجتمعاتها على التضامن والتعاون على البر والتقوى والتقدم كإستونيا، تسترجع ظُلمات وعصبيات الهاتف الأحمر الجاهلية الطبقية الضيقة التي أضاعت بني الأحمر ومعهم وطنهم الأندلس، كحال بعض دول جامعة الدول العربية اليوم.
فنجا وأخواتها والتكنوبلوماسية
مما لاشك فيه أن ازدهار شركات تقنية عالمية بميزانيات بعض القارات بأكملها مرتبط بالبنية الأساسية للإنترنت، وهنا قد حبانا المولى عز وجل بكوننا واسطة عِقد كابلات الاتصالات العالمية، التي تتنافس عليها هذه الشركات التي تعرف اختصارا بفنجا. ولا علاقة لهذا الاسم بولاية فنجاء العريقة، بل هي اختصار لشركات- فيسبوك وآبل ونتفلكس وجوجل وآمازون، ويُضاف إليها أخواتها كمايكروسوفت أيضاً. وحريٌ بنا أن نتضامن لنُحول ما حبانا الله به من نِعم إلى نتائج ملموسة، أُسوةً ببعض حكومات العالم البعيدة النظر التي تبنت مبادرة "التكنوبلوماسية".
وبدأتها الدنمارك في العام 2017 التي أسست مكتب سفير يمثل الدولة في بناء علاقات استثمارية مُجزيةٍ مع شركات فنجا وأخواتها. وأرى أن التقدم نحو المستقبل بثقة يُعززه أن تُكيِف كل دولة هذه المبادرة بما يتناسب مع رؤيتها. على سبيل المثال فإن من شأن استحداث فريق مكتب تكنوبلوماسية قوامه دبلوماسي متمكن في مجال نقل العلوم والمعارف والتكنولوجيا بدرجة سفيرة أو سفير، يُعينه أربع مُلحقين أو مُلحقات دبلوماسيين، من جيل الألفية متخصصين في بناء العلاقات الاستثمارية مع شركات فنجا وأخواتها: الأول للذكاء الاصطناعي للتركيز على جذب الاستثمارات في صناعات التعليم والاقتصاد البرتقالي والدفاع وبالأخص الطائرات دون طيار والجنود الروبوتات، والثانية للتقنية الحيوية لجذب استثمارات صناعات الأمن الغذائي والمائي والطب والأدوية، والثالثة للطاقة للاستثمارات ذات الصلة بمزيج الطاقة، والرابع لجذب استثمارات تصنيع الرقاقات الدقيقة وأشباه الموصلات.
وأدعو المولى عزّ وجل أن نكون من القوم الذين يتضامنون بالاستثمار في نِعمه باستدامة، وأن يجنبنا مصير القوم الذين صوّر لنا الشاعر الأندلسي أبي البقاء الرندي ما حل بهم في نونيته الخالدة:
أتى على الكلِّ أمرٌ لا مَرَدَّ له // حتى قضوا فكأنَّ القومَ ما كانوا
وَصَارَ مَا كَانَ مِنْ مُلكٍ ومنْ مَلكٍ // كما حَكَى عَنْ خيالِ الطيفِ وَسْنانُ