مُعلقات بابل الوهمية

 

أنيسة الهوتية

هَل صَحوتَ فِي يَوم إجازةٍ مِن نَومِكَ وفَكَّرتَ فيِ أُمورٍ كَثيرة مُعَلقة في بَالك؟ ثُم نَظرتَ إليها ورأيتَها نائمةً مَكانِها لَم تَتَحَرك رغم السنين التي مضت! فلنفترض أنك فعلت، ولكنني مُتأكِدة أنكَ لَم تلمسها، فقط نظرت إليها وتركتها ولَم تُحرِكها للمرةِ الألف والمليون، كَعادتك الدائمة تتذكرها تنظر إليها وتتركها مكانها! ثم تقول في نفسك، متى سأبدأ هذا المشروع، وهذا المشروع، وهذه الهواية، وأريدُ هذا وأريدُ ذاك، وتبقى كلها مُجرد رغبات مُعلقة.

أقول ذلك للقارئـــ/ـة الذي يشبهني في امتلاك الكثير من الآمال والأماني المعلقة. لذلكَ قُلتُ في يومِ إجازة لأننا وأمثالنا في أيام العَمل نصحوا ومُباشرة نتجهز ونستعد للذهاب إلى العمل، خاصة موظفي القطاع الخاص الذين يبدأ عملهم مِن الثامنة صباحاً إلى الخامسة مساءً، ولا مُتسع من الوقت لأي شيء آخر في حياتنا لممارسة أنشطتنا، هواياتنا، أو وضع لَبنة بناء أساسية لأفكارنا، ولا حتى لزيارات الأهل والأقارب والأرحام، أو حتى تجمعات الأصحاب، أو زيارة الجيران، ولَرُبما الأخيرات من المُمكن أن تأخذ نصيبها في أيام إجازات الأسبوع إذا لم يكن ذلك اليوم محجوزاً لشراء أغراض البيت وإكمال بعض التصليحات، ومِنا نساء لايمتلكن مُساعِدة منزل، ولا يجدن يد عون من أزواجهن وأبنائهن في المهام المنزلية، ولديهن طاقات كبيرة وأفكار كثيرة ولكن يفتقرن إلى الوقت!

24 ساعة، منها تِسع أو عشر للعمل مضافاً إليها أربع أو ثلاث ساعات للتجهيز للعمل، السواقة من وإلى العمل. العمل العمل العمل الذي أخذ أغلب ساعاتنا اليومية، ولربما هناك من يحمل عمله معه على ظهره إلى البيت، فذهنه غير صافٍ كغيره، ولا يستطيع الاستمتاع  أو الاستفادة من وقته مساءً أو في إجازات الأسبوع، لأنه ذهنيا ينتظر اتصالاً مُفاجئاً في أية لحظة ليُباشر العمل الطارئ المطلوب منه بالذهاب إلى المقر أو حتى عن بُعد.

ومن الإحدى عشرة ساعة المتبقية 5 إلى 6 ساعات لنومه اليومي الذي يكون محظوظاً إذا أكملها ولم تُستنفَذ للعمل الطارئ أو للمسؤوليات المنزلية! وأخيراً لا يتبقى لديهـ/ـا سوى 5 ساعات للعائلة! إذاً، كيف نكمل نشاطاتنا ومشاريعنا وهواياتنا في تلك الساعات المعدودة، ونحن نعيش في دوامة "الركض وراء لقمة العيش"، بل وكيف نُـكَون لَبنة مُجتمعٍ قوية كسابقاتها في أوقاتٍ مضت!؟ ورُعاة العوائلِ والأُسَر ليس لديهم الوقت الكافي ليعيشوا تحت سقفٍ واحد ويشاركوا أهاليهم الأفكار والهموم والمحبة، أو حتى يتابعوا تربية أبنائهم ويتواجدوا معهم في تفاصيل حياتهم! خمس إلى سِت ساعات يومية تُقَسَمُ  للعائلة، للمشاريع، للأبناء، وللنفس بإرهاق! فهل هذه حياة صحية؟

طبعاً لا، فهذه حالات الضرر منها واقعٌ لا محالة، مادياً، صحياً، أو تربوياً على الأبناء، أو حتى الطلاق! والمحظوظ هو من يقع الضرر عليه في عدم إكماله لأنشطته ورغباته ومشاريعه وتواصله الاجتماعي، وبالمقابل تبقى صحته طيبة، وأبناؤه تربيتهم وأخلاقهم جيدة، وحياته الزوجية مُستقرة، وحالته المادية كريمة! والأخيرة هي ما يجعلنا عبيداً لوظائفنا، فالقوانين الصارمة والصعوبات الكثيرة لفتح المشاريع مع الرسوم والضرائب جعلت المواطن يخشى على لقمة عيشه ولا يجازف بوظيفته التي يحصل منها على راتب شهري مضمون حتى لا يضطر إلى مد يد الحاجة لطعام وشراب وملبس، أو أن يُسجَن لأن كل ما يمتلكه لتأمين حياته وحياة أهله قد امتلكه من ديون بنكية! والمشاريع لا تثمر سريعاً!

ومَعَ ذَلِك يبقى يُعَلقُ مِشعلاً لكل فكرةٍ ورغبة على جِدار الأمل ليُسعِد نَفسهُ بِكَلمة "أُريدُ" وهمية، ويزرع بجانبها وردةً تُشبِهُهُ لتأريخها، فيبني لنفسه حديقة مُعلقة كمعلقات بابل التاريخية إلا أنها وهمية.