إعلام التليين (2)

أن تلحق بالموجة

غسان الشهابي

في الأسبوع الماضي، كانت هذه الزاوية تحمل الجزء الأول من المُلاحظات العامة على الإعلام، وكان ذلك في الإعلام الغربي الذي يُقدم قيماً وإن كانت غير مقبولة في فترة ما، إلا أنه يروّجها ويروّج ويروّج، حتى يجد أن المتابعين والمتأثرين صاروا يتكاثرون ويتزايدون، ربما يتوحشّون أيضاً، وحتى أنهم يصبحون كأمواج البحيرة التي تتلقى في وسطها حجرا فتنداح أمواجها حتى الأطراف، فلا مأمن لأحد ولا منجى إلا أن يكون داخل البحيرة أو ستأتيه الموجة التي تقذف به خارج المشهد.

في فترات مضت، وكان الإعلام أقل بأساً وضراوة منه اليوم، تم الترويج لما أسمي "الصحوة الإسلامية"، حتى تصد الخطر الشيوعي الداهم آنذاك... خطر منفلت لفقده القيادات التاريخية القديمة، حتى أن السوفييت في بدايات الثمانينات، كانوا لا يستقرون على رئيس حتى يخلفه آخر لأنهم كانوا يموتون قبل أن نحفظ أسماءهم لشيخوختهم.

وحتى إذا تمَّت فرقعة الاتحاد السوفيتي من الداخل، ما عادت هناك من حاجة لأبناء "الصحوة" وكان لابد لهم أن يخمدوا خصوصاً وأن "وعيهم" قد تعالى، وما عاد الاتحاد السوفيتي "الكافر" موجوداً، فالتفتوا إلى الداخل، وهنا صاروا "إرهابيين" بعدما كانوا "مجاهدين".

في السنوات الماضية، يُمكن للمرء أن يتابع محطة مثل "mbc" ليعلم مقدار ما تقدمه من ضخّ مبرمج لإحداث التغيير الذي يتناسب مع التوجهات الجديدة في المنطقة، حيث بدأت المحطة بحفر الجدار السميك الذي بنته "الصحوة" بالأظافر، من خلال مسلسلات تنقد رجال الدين، أو تثير النقاش في المجتمع حول ظاهرة مُعينة مع إلقاء بعض الأوزان في الكفة المراد أن ترجح، وأمام المشاهد أنها قدمت وجبة متوازنة.

أجبرتني بعض الظروف أن أتابع المحطة لبعض الوقت في المساء خلال الفترة الفائتة، ألاحظ الإعلانات التي تنبه إلى شيء محدد، يراد أن يثبت في المجتمعات الإقليمية: ثلاث نسوة متحجبات يتناقشن في أمر ما، وتأتي المرأة "السافرة" لتقول لهن الحل بمنتهى الذكاء. شابان أحدهما يلبس اللباس التقليدي يُحاول عمل شيء بالشكل التقليدي الذي اعتاد عليه، والآخر الـ"كوول" بشعره المنكوش وأزيائه الفوضوية يعلّمه كيف يفعلها بشكل عصري، حوالي 3 إعلانات تظهر فيها فتيات يُمارسن الملاكمة، واثنان منهما تفتح فيهما الفتاة ساقيها عن آخرهما، ورجل ينصح ابنه بالاجتهاد ليكتشف– من خلال ابنه العصري– أن ليس الاجتهاد هو ما يجب أن يُمارسه الفرد...إلخ. هذا إلى جانب الكثير من البرامج الفنية أو الاستعراضية التي تذهب إلى تسطيح المجتمع و"تضحيله" تحت دعاوى "الترفيه".

سيكون من الصعب أن نعتقد كل هذه المظاهر التي كانت تتصاعد على مدى السنوات وتستدق حتى تتمكن من اختراق ما درجت عليه المُجتمعات خلال حوالي ثلاثة عقود تغيرت فيها المجتمعات بشكل انقلابي، وها نحن ذا ننقلب من جديد إلى شكل آخر لا ندري كيف ستكون ملامحه النهائية غير ما يظهر لنا الآن من تغريبه والسير به أبعد ما يكون، ليس عن فترة الصحوة وحسب، بل إلى أبعد من أن يعود ليعرف نفسه كما عرفها عبر مئات السنين، وستعاد الكرّة من جديد، ليعتلي صنّاع الإعلام أمواج المدّ العالي.