عودوا إلى رشدكم


أ.د. حيدر بن أحمد اللواتي
كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس

مرَّت العلاقة بين علوم الطبيعة والدين في مسيرتهما الطويلة بمراحل مختلفة وكانت العلاقة بينهما في توافق كبير في مراحل معينة من التاريخ كما كان الحال في ظل ازدهار الحضارة الإسلامية، ولعل أهم وأبرز إنجازات الحضارة الإسلامية التي لم يلتفت إليها الكثيرون هي قدرتها على التوفيق بين علوم الطبيعة والدين بصورة ربما لم تعهدها البشرية في تاريخها الطويل، فلقد عاش العلم زمن ازدهار الحضارة الإسلامية في كنف الدين في تناغم كبير وكان أحدهما يدعم الآخر في منظومة رائعة.
إنَّ هذا التناغم بين هذين الأمرين الضروريين في حياة الإنسان يُولد استقرارا وطمأنينة لدى الإنسان لأنَّ الدين والعلم كلاهما لا غنى للإنسان عنهما.
فالدين يجيب على أسئلة مصيرية كامنة في النفس البشرية وهي أسئلة خارجة عن نطاق علوم الطبيعة تماماً ولا تملك علوم الطبيعة أية أدوات للإجابة عليها فجميع الأسئلة المرتبطة بالمبدأ والمعاد والهدف من الحياة الإنسانية تعجز علوم الطبيعة عن تقديم أية إجابات عليها لأنها ببساطة خارج عن نطاقها تماماً، وبالمقابل فإنَّ علوم الطبيعة تمتلك إجابات نموذجية حول القوانين التي تسير هذا الكون والتي لا غنى للإنسان عنها ليقوم بإعمار هذه الأرض وبناء حضارة عملاقة.
لكن العلاقة بين الدين وعلوم الطبيعة بدأت تأخذ منحى مغايراً وتتحول إلى نزاع وصراع في ظل الحضارة الغربية، وربما يكون هذا الصراع البارز بين علوم الطبيعة والدين هو واحدة من أهم وأكبر التحديات التي تُواجه الحضارة الغربية.
فعلى الرغم من أنَّ المسائل المرتبطة بالمبدأ والمعاد خارجة تماماً عن نطاق العلم كما أسلفنا آنفا، إذ ليس بمقدور العلم باستخدام أدوات التجريب التي يمتلكها والتي يؤمن أنها السبيل الأمثل للكشف عن قوانين هذا الكون ونظمه أن يكشف عن الغايات والأهداف التي من أجلها وجد هذا الكون وما فيه، إلا أنَّ هناك إصرارا لافتا للنظر من أغلب علماء الطبيعة بنفي ورفض جميع الاحتمالات التي تشير إلى وجود قوة غيبية تسير هذا الكون، ومن هنا فلقد أدخلت الصدفة والعشوائية والضرورة الكيميائية والفيزيائية في تفسير جميع الظواهر الكونية.
 فلقد لعبت الصدفة دوراً أساسياً في حل إشكالية المبدأ والعلة الأولى في تفسير الظواهر الكونية عند غالبية علماء الطبيعة في عصرنا الحاضر، فكل بدايات الخلق حدثت بصدف ومن ثمَّ وجدت ضرورات فيزيائية وكيميائية متمثلة بالقوانين التي تحكم الطبيعة لاستمرار الكون، فالشروط الأولية لخلق الكون حدثت بالصدفة، وتجمع المواد الأولية لتكوين الخلية الحية حدثت بصدفة عشوائية ونشأة الإنسان وتطوره كانت نتيجة لصدف عمياء متوالية، فأصبحت للصدفة موطأ قدم ثابت في تفسير جميع الظواهر العلمية في بداياتها الأولى.
يقول الكاتب المشهور بول دافيدس (أصل الحياة مجرد صدفة، حدث كيميائي غير محتمل الحدوث لدرجة أنه لا يُمكن أن يحدث مرة أخرى) (١)
وكان من نتائج إدخال الصدفة كلاعب أساسي وحجر زاوية في تفسير أصل الحوادث الكبرى في هذا العالم إلغاء الغائية والهدفية من وجود الكون برمته ولذا فالصوت الأبرز للعلم في الوقت الحالي هو أن هذا الكون وما فيه وجد بصدف عشوائية لا غاية ولا هدف من ورائها، فنحن وجدنا فيه عبثاً بل الكون برمته عبث لا هدف من ورائه.
يقول بول دافيدس (ومن أين تأتي هذه الغايات في عالم تحكمه على ما يبدو قوى عمياء بلا هدف) (١)
ويقول أيضاً ما مفاده أن عبارات مثل هدف ووجود معنى للحياة الإنسانية هي عبارات محرمة في العلوم الطبيعية منذ القرن الماضي لأنها تحمل رائحة عصر ديني قد ولى. (١)
ويقول شون كارول (ليس ثمَّة فارق كبير بين الإنسان والروبوت، إننا جميعاً مجرد تشكيلات مادية معقدة من المادة) (٢)
وورد في مجلة New Scientistما مفاده أن عبارة "معنى للحياة" هي عبارة خيالية وسقيمة وغير علمية. (٣)
ويقول الكاتب والمؤرخ الشهير نوح هراري عندما يتحدث عن الهدفية في حياة الإنسان ووجود معنى لحياته (وفقاً لفهمنا العلمي، لا توجد حقيقة من بين آلاف القصص التي اخترعتها الثقافات والديانات والقبائل المختلفة عبر التاريخ، كلها مجرد اختراعات بشرية ((٤)
إن إصرار إدخال الصدفة في تفسير هذه الظواهر الكونية والتي لم تجد العلوم الطبيعية حلولا لها والاعتقاد بعبثية هذه الحياة بل بعبثية الكون كله يعني بالضرورة نفي وجود قوة غيبية حكيمة وقادرة وراء هذا الكون وما فيه وبالتالي لابد للعلوم الطبيعية في هذه الحالة أن تكون في نزاع مستمر مع الدين الذي يعد قوامه الأول هو الإيمان بوجود قوة غيبية تسير الكون وتوجهه، ولهذا فإن الصدام بين الدين وبين علوم الطبيعة سيستمر وربما يصل إلى أوجه.
إننا نلاحظ أنَّ الغالبية العظمى من علماء الطبيعة في العقود الأخيرة ملحدون ولا يؤمنون بوجود قوة غيبية تسير هذا الكون، ففي دراستين مستقلتين إحداهما تمت في عام ١٩٩٨ في الولايات المتحدة وأخرى عام ٢٠١٣ في المملكة المتحدة تبين أن عدد المؤمنين من علماء الطبيعة بوجود إله أو قوة غيبية تتحكم في الطبيعة لا يتجاوز الـ ٨٪. (٥، ٦)
لقد أسهمت الحضارة الغربية في مجال العلوم الطبيعية إسهامات عظيمة لا يُمكن لأي عالم منصف إلا ويعترف بفضلها وتميزها ولكن على أصحاب هذه الحضارة أن ينتبهوا إلى أن هذا الصراع بين علوم الطبيعة والدين هو صراع بين نوازع فطرية غرست في الإنسان منذ نشأته ولم تفارقه قط طيلة مسيرة حياته كما أشارت إلى ذلك الأبحاث العلمية. (٧)
إن الإنصاف والحياد العلمي يقتضي من علماء الطبيعة أن يؤمنوا (على أقل تقدير) باحتمالية وجود قوة حكيمة توجه هذا الكون وترعاه وأن هذه الاحتمالية أكبر بكثير من احتمالية تفسير حدوث كل تلك الظواهر في مراحلها الأولى بصدف عشوائية غير مُوجهة لذا نقول لهم عودوا إلى رشدكم وكونوا منصفين في حكمكم لننعم معاً بحضارة تسعى نحو أهداف حقيقية خلقنا من أجل تحقيقها لا لحضارة مبنية على أهداف مصطنعة ومزيفة، أصلها قائم على صدف عشوائية ووجودها مرتكز على العبثية.


المصادر الرئيسية:
1-     The Fifth Miracle, The Search for the Origin and Meaning of Life – Paul Davies
2-     الصورة الكبرى: عن أصل الحياة والمعنى والكون ذاته – شون كارول
3-     A meaning to life: How a sense of purpose can keep you healthy
https://www.newscientist.com/article/mg23331100-500-a-meaning-to-life-how-a-sense-of-purpose-can-keep-you-healthy/#ixzz6jUVGjY00
تم التصفح بتاريخ ١٤/١/٢٠٢١
4-     Sapiens, A Brief History of Humankind – Yuval Noah Harari
5-     Leading scientists still reject God Edward J. Larson & Larry Witham , Nature 394, 313(1998)
https://www.nature.com/articles/28478
تم التصفح بتاريخ ١٤/١/٢٠٢١  
6-     Eminent scientists reject the supernatural: a survey of the Fellows of the Royal Society, Michael Stirrat & R Elisabeth Cornwell , Evolution: Education and Outreach 6,33 (2013)

7-     Hunter-Gatherers and the Origins of Religion، Hervey C. Peoples, Pavel Duda, and Frank W. Marlowe, Hum Nat. 27, 261(2016).