الضفادع البشرية

غسان الشهابي *

أزعُم أن الأكثرية سبق لها وقرأت طريقة "سلق الضفادع"، ولمن لم يقرأها، ولتذكير من سبق له قراءتها، فإن الطريقة تقول: يوضع الضفدع حيًّا في قدر مياه دافئة بعض الشيء، وحتى لا تلسع الحرارة جلد الضفدع فيقفز خارج القدر؛ تتم زيادة درجة السخونة ببطء شديد، وكلما ارتفعت الحرارة درجة، تأقلم معها الضفدع الضحية، واطمأن، ودرجة بعد درجة حتى يفارق الحياة وهو مبتسم في حمامه المغلي!

لا أدري مدى صحة هذا الأمر بالنسبة للضفادع، ولكنه أمر جدُّ صحيح بالنسبة للبشر، ويتم ذلك إعلاميًّا بشكل واضح وممنهج، منه ما نلحظه ونكتشفه في حينه، ومنه ما تتبدَّى لنا أهدافه بعد أن يدور دورته، ويُحدث الأثر المطلوب في نفوس المتلقين... وفي كلا الحالين، فليس للأفراد القدرة على الوقوف في وجه هذا المدّ العالي الذي يمثله إعلام الترفيه الذي يختطف القلوب ثم العقول، وأخيراً النفوس.

هذا الإعلام لا يلجأ إلى الصدمة، بل إلى "ضفدعة" البشر، بحقنهم بالجرعات المتعالية مرة بعد مرة، وعلى مراحل حتى يستمرئوا الرسائل التي تُبثّ ويتماهوا معها، ويتعايشون معها وبها، ويصبحون مدافعين عنها على اعتبار أنها حرية شخصية، وحقوق إنسان، والكثير من هذه المصطلحات التي يُمكن أن تنزل على رأس من يفكر أن يتحدث باسم الدين أو المنطق أو الفطرة أو ما شئت مما تربت عليه أجيال وأجيال.

أذكُر أنَّني كُنت في وفد رسمي إلى العاصمة الأمريكية واشنطن في العام 2001، وبعد أيام التقيت وزميلتي على مائدة الإفطار وكان على لسانينا السؤال نفسه، وفي عينينا الدهشة نفسها: هل لاحظت كمية الحديث عن المثلية؟ نعم، كانت "المثلية" تطرح بقوة في البرامج الحوارية، وفي المسلسلات، والـStand-up Comedy، تدور حولها النقاشات، وتطرح مرة على شكل نكتة، ومرة على شكل شخصية اعتيادية في المشهد العام، ومرة على شكل ضحية، و...و... وهكذا بعد أقل من 20 عاما، يجري تلوين البيت الأبيض بالألوان المعروفة لهذه الفئة، ويجرَّم من يتعرض لهم بالنقد. بل، وتقوم فئة من أبناء، خصوصاً المتغربين فكريًّا وعاطفيًّا ومبادئيًّا وقيميًّا، بالدفاع عن حقوق هذه الفئة، وتركهم لما اختاروا، وإلا فإنَّ المناداة بالديمقراطية والتعددية والتسامح والتعايش لا معنى له، ومجرد شعارات جوفاء لا نؤمن بها، ونتحيَّن الفرص للانقضاض عليها لو أتيحت لنا الفرصة للتحكم بالنظرة إلى القيم التي تسود المجتمعات!

لم يَكُن الأمر سهلاً أمام الإعلام وما كان مُعبَّداً لكي يصل إلى ما وصل إليه، بل لقد خاض الكثير من الحروب والصراعات لكي يثبّت توجهاته العولمية، وأنفق الكثير من المال في هذا السبيل، ووظف الكتّاب والإعلاميين، وعلماء النفس، وعلماء الاتصال، والمسوّقين، وما أتيح من العلوم حتى يربط المقدّمات بالنتائج، وحتى يجني ثمار التوجهات "التتفيهية" من خلال المبالغة في البرامج الترفيهية التي صارت متلاحقة إلى درجة التي حالت فيها بين الجمهور والجدية أو النقاش العقلاني، أو التزود بالقراءات المختلفة، أو حضور أي مظهر جاد من المظاهر الثقافية بشتى أنواعها، لأنه لا أسهل من قياد جيل تملأ الثقوب الواسعة وجدانه وقيمه وثقافته وفكره ودينه وخصوصيته، ويغدو أقرب للضفدع المستمتع بفقاعات الماء الذي يغلى فيه.

 

* كاتب بحريني