يوسف بن حمد البلوشي
فرضت المُتغيرات المُتسارعة في قطاع الطاقة وظهور الطاقة المتجددة والتَّقدم في تقنيات الثورات الصناعية تغييراً في أنماط الاستهلاك في جميع المُجتمعات. وسارعت جميع الدول النفطية ومن بينها السلطنة والتي تمثل الإيرادات النفطية الرافد الأهم في موازناتها إلى تبني برنامج توازن مالي يهدف إلى ضبط النفقات العامة وتعزيز الإيرادات غير النفطية. ولقد حققت السلطنة تقدماً ملموساً في ذلك بفضل الإرادة السياسية التي سخرت الممكنات والأسباب للبرنامج لتحقيق أهدافه، وواقعياً من المبكر الحكم على النتائج بصورة نهائية.
ولا يخفى أنَّ التنمية الحقة هي عملية شاملة ديدنها تحقيق توازنات مالية واقتصادية واجتماعية صعبة بشكل متلازم ومتسق ولا يُمكن تجزئة هذه التوازنات وتحقيق واحد على حساب الآخر وإلا ستكون التنمية غير عادلة وتفتقر إلى الاستقرار اللازم لضمان ديمومتها. وفي نفس سياق التوازنات الكبرى المطلوبة تظهر الحاجة الملحة لبرنامج توازن اقتصادي واجتماعي تسخر له أسباب النجاح والإمكانيات والإرادة السياسية. وهناك الكثير من القضايا الملحة التي ينبغي التعامل معها في هذا الشأن نذكر منها ثلاث يرتبط الملف الأول منها بإعادة توازن دورة الأنشطة التجارية المرتبطة بالطلب والعرض المحلي من السلع والخدمات، ما ننتج وما نستهلك، ما نصنع وما نُصدر والتركيز على قضايا خلق فرص عمل للمواطنين والقيمة المضافة المحلية وتعزيز المُنتج المحلي وتهيئة الظروف لتشغيل قاطرات الاستثمار المحلي والأجنبي.
أما الملف الثاني فيتعلق بالتركيز على إعادة توازن العلاقة بين أفراد وأسر المجتمع والحكومة وشركات القطاع الخاص والمتعاملين من العالم الخارجي فلكل شريحة أهداف ومتطلبات ومناط بها واجبات ومسؤوليات وأدوار جديدة تتلاءم مع النموذج التنموي والعقد الاجتماعي الجديد، والحديث هنا عن قواعد جديدة قائمة على تقاسم الأعباء والكلف والمسؤوليات المشتركة والعمل كفريق واحد. وتشير الدلائل إلى أنَّ الحكومة لا زالت تضطلع بكافة الأدوار، في الإنتاج، والتمويل والاستثمار. وإن كان هذا الدور مطلوباً في المراحل الأولية لمسيرة التنمية، فإنَّ المراحل الحالية والجاهزية التي وصلت إليها السلطنة تفرض ضرورة تقاسم الأدوار والتكاليف بين جميع الأطراف ذات العلاقة. وهنا تبرز الحاجة إلى تغيير أنماط السلوك وتغيير بعض الممارسات غير المواتية للمرحلة الآنية والمستقبلية وتعزيز بعض الثقافات والمبادئ المرتبطة بريادة الأعمال والإنتاج والحد من أنماط السلوك الاستهلاكي.
وأن تحقيق التوازنات المالية والاقتصادية والاجتماعية يتم بالتوازي مع الملف الثالث المرتبط بإدارة الدورة الاقتصادية المحلية وتكثيف استخدام السياسات المالية والاقتصادية والاجتماعية حسب مراحل وحاجات التنمية وقضاياها وهنا تظهر الحاجة إلى أهمية الفهم العميق للمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة والتأثيرات المتبادلة بينها. ولذلك فإنَّ استعادة زخم النمو ومواجهة التداعيات المالية والاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن جائحة كورونا وتدهور أسعار النفط وتحقيق رؤية عُمان 2040 وصناعة المستقبل الذي نريده لهذا الوطن يستوجب اتباع توليفة متكاملة من المبادرات والسياسات (تشريعية، مالية، نقدية، تجارية، بشرية، صناعية، استثمارية،..وغيرها) مبنية على فهم عميق لديناميكية وحركة مختلف المتغيرات التي تؤثر وتتأثر بدورة الحياة الاجتماعية والأنشطة الاقتصادية المحلية. وقد يتطلب الأمر مراجعة السياسات العامة للتنمية خلال الحقبة المنصرمة وتقييم آثارها على استحداث الوظائف والرفاه الاقتصادي، واستخلاص الدروس والتطلع إلى الأمام لتحديد الإصلاحات الرئيسية اللازمة للحفاظ على النمو، واستحداث فرص العمل وإيجاد سياسات عامة متجددة بتجدد المعطيات.
ولامناص من مراعاة الأبعاد المختلفة للتوازنات الاجتماعية وخاصة فيما يتعلق بإيجاد فرص عمل منتجة وتوفير العدالة الاجتماعية التي تكفل الحد الأدنى لمتطلبات العيش الكريم للمواطنين فنحن دولة فتية لا يزيد عدد سكانها المواطنين عن 2.7 مليون فقط نعيش في بلد شاسع المساحة وغني بالموارد الطبيعية والمكانية. الأمر الذي يستوجب التعامل مع مختلف الجوانب المختلفة بالتزامن لتحقيق التحفيز والتوازن الاقتصادي المنشود. وهنا الحديث عن جانبين. الأول يرتبط بتهيئة عوامل الإنتاج المتمثلة في رأس المال وسوق العمل واستغلال الموارد الطبيعية والبشرية والبنية الأساسية المتوفرة وكذلك منظومة الإدارة والتي بدورها تحفز العلاقة بين الأطراف المعنية بالتنمية. وذلك بغرض الحد من خروج الأموال خارج الدورة الإنتاجية -الاستهلاكية المحلية من خلال الاستيراد من السلع والخدمات وتحويلات العاملين والأرباح وهو ما يصفه الاقتصاديون بالطلب المحلي، وكذلك تعزيز ما يساند هذه الدورة من خلال زيادة الصادرات وإعادة التصدير وجذب الاستثمار الأجنبي (الطلب الخارجي). وهناك العديد من الوسائل المعروفة التي تلجأ إليها الدول لتحقيق التوازنات التنموية وضمان إعادة هندسة الاقتصاد الوطني وتحقيق الأهداف المبتغاة في استدامة النمو والتنمية على الأمد البعيد.
وختاماً، فإنَّ جائحة كورونا تمنحنا فرصة عظيمة لإعادة ترتيب ملفاتنا المالية والاقتصادية والاجتماعية ويمكن للسلطنة أن تحقق قفزات تنموية كبيرة ونقلات نوعية في النموذج التنموي شريطة الأخذ بمبدأ الشمولية ومراعاة أبعاد التنمية المختلفة والنظر بمنظور جيو -استراتيجي للمتغيرات المحلية والإقليمية والعالمية.