هل تتغير السياسات الأمريكية مع بايدن؟

حاتم الطائي

◄ فارق واضح بين سياسات الجمهوريين والديمقراطيين.. لكن الأهداف تظل ثابتة

◄ الشرق الأوسط بؤرة اهتمام البيت الأبيض.. و"صفقة القرن" بيعة خاسرة

◄ أمريكا تعاني من انشقاق داخلي غير مسبوق يهدد استقرارها

◄ الشيخوخة تضرب الحضارة الأمريكية.. وفوضى اللقاحات تكشف عوار الرأسمالية

في كلِ مرةٍ يأتي فيها رئيس جديد للولايات المُتَّحدة، تتزايد التوقعات والتخمينات والتحليلات بشأن مُستقبل أمريكا في 4 أو 8 سنوات، والأهم من ذلك علاقة البيت الأبيض بالشرق الأوسط والسياسات العالمية، غير أنَّ الواقع يُبرهن دائماً أن مجيء رئيس جمهوري أو ديمقراطي، لن يُغيَّر من أمر الولايات المُتحدة تجاه ملفاتها الرئيسية، وعلى رأسها السياسات في الشرق الأوسط؛ حيث سيظل هذا الأخير مسرحاً للصراع الذي يُغذي الأجندة السياسية لساكن البيت الأبيض.

فرغم الفارق الواضح بين سياسات الجمهوريين والديمقراطيين لاسيما في الشأن الداخلي، إلا أنَّ السياسة الخارجية للولايات المتحدة تظل ثابتة إلى حدٍ ما، ربما تختلف الأدوات والآليات والأولويات، وتتغير وتيرة العمل والإنجاز، حسب كل رئيس ومصالح إدارته وطبيعة كل مرحلة. ومع أداء الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن لليمين الدستورية ورحيل سلفه الجمهوري دونالد ترامب غير مأسوف عليه، علينا أن ننظر بعمق وأن نُحلل بدقةٍ ما سيشهده العالم من مُتغيرات أو ما سيظل قائماً من أوضاع، وهذا التحليل يتطلب دراسة 3 مجالات رئيسية في السياسات الأمريكية؛ أولها: الوضع الداخلي (اقتصاديًا وسياسياً واجتماعياً)، وثانيها: العلاقات مع الصين والعالم، ثالثها: السياسات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط.

وقبل أن نبدأ في سبر أغوار هذه المجالات الثلاثة، نضع مجموعة من الثوابت التي تمهد الطريق أمام فهم أوسع وأكثر شمولية لما سيلي من رصد وتحليل. الثابت الأول أنَّ الولايات المتحدة لم تعُد وحدها صانعة القرار العالمي، فهناك التنين الصيني، والدب الروسي، والعملاق الأوروبي، حتى بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ثانياً: أمريكا بعد ترامب لم تعد كما كانت من قبل، حتى تحت حكم أكثر الرؤساء تشددًا في نهجه اليميني المُتطرف. ثالث الثوابت أنَّ أزمة فيروس كورونا كانت بمثابة لكمة عنيفة وُجهت إلى المصارع الأمريكي الضخم، فطرحته أرضًا، وربما يكون الحكم قد اقترب من الوصول إلى 10 لإعلان هزيمتها في مواجهة الوباء الشرس.

ولذلك عندما نضع المشهد السياسي الداخلي في الولايات المتحدة تحت العدسة المُكبرة، نُدرك حقيقة لا تقبل الشك، وهي أنَّ ثمَّة انقسام وشرخ وصدع في المجتمع الأمريكي، فقد تحولت "أرض الأحلام" إلى فسطاطين، الأول أحمر (الحزب الجمهوري) والثاني أزرق (الحزب الديمقراطي)، وكلاهما ظل طوال 4 سنوات مضت في صراع غير مسبوق، عملية من الشد المُتواصل التي لم تعرف الجذب؛ إذ ثمة ضربات سياسية مُؤلمة تلقاها الحزب الجمهوري من غريمه الديمقراطي، فلأول مرة يتعرض رئيس أمريكي لإجراءات العزل مرتين في فترة رئاسية واحدة، وهو ما حدث مع ترامب، الأولى على خلفية اتهامات باستغلال السلطة وعرقلة عمل الكونجرس، الأمر الذي اعتبر على نطاق واسع تهديداً للأمن القومي الأمريكي. أما المرَّة الثانية التي تعرض فيها ترامب لإجراءات العزل، فكانت في الأيام الأخيرة لحكمه، بعدما اقتحمت مجموعة من المُتظاهرين وبعضهم كان مسلحاً، مبنى الكابيتول (مقر الكونجرس). هذا إلى جانب خلافات حادة حول تمويل الميزانية الفيدرالية والجدار الحدودي مع المكسيك، والعلاقات مع الحلفاء (لاسيما حلف الناتو والاتحاد الأوروبي)، وسياسات الهجرة، والكذب والتضليل عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي التي يديرها، ودعم المتطرفين من أنصار "تفوق العرق الأبيض"، والكثير من القضايا المحلية الخلافية، والتي تسببت في نهاية السنوات العجاف الأربع لترامب في صدع عميق داخل الشعب الأمريكي. ولذا نرى بايدن- والذي يبلغ من العمر 78 عاماً- يسعى لمحو الإرث الترامبي الفوضوي، وما خلفه من ندوب عميقة في الجدار الوطني الأمريكي، فهل ينجح؟ هذا ما ستكشفه الفترة المقبلة، خصوصاً مع استمرار المساعي لمساءلة ترامب وحرمانه إلى الأبد من مُمارسة السياسة.

السياسة الخارجية الأمريكية تجاه العالم (عدا الشرق الأوسط) ستكون كذلك محل اهتمام كبير من المراقبين والمحللين، فخلال حكم ترامب تعرضت العلاقات الأمريكية الصينية لأعنف هزة أشعلت فتيل حرب باردة جديدة بين أكبر اقتصادين في العالم، على خلفية الرسوم الجمركية، وسياسات الحظر ومُضايقة الشركات. لكن مستقبل العلاقات بين البلدين يظل غامضاً رغم رحيل ترامب، فخلال مناظرة رئاسية بين ترامب وبايدن، اتِّهم كل منهما الآخر بانتهاج "أسلوب لين" مع الصين، ومن هنا يُمكن أن نستنتج طبيعة سياسات بايدن تجاه ثاني أكبر اقتصاد في العالم، فالرجل يبدو أنَّه متحفز ضد بكين، لكن ثمَّة مؤشرات أخرى ترجح عدم لجوئه إلى أسلوب ترامب الذي ظل ينتقده حتى النهاية؛ منها أن أي تصعيد جديد من واشنطن تجاه بكين سيُقابل بتصعيد مُماثل، والوضع الأمريكي حالياً ولمدة 6 أشهر على الأقل سيكون منصباً على معالجة أزمة وباء كورونا والارتفاع الهائل في الوفيات والإصابات، خصوصا إذا ما تفاقم انتشار المرض بسبب السلالة الجديدة.

أما علاقات أمريكا مع الاتحاد الأوروبي، فيمكن القول إنَّ التيار الشعبوي يُعاني الضعف النسبي الآن مع رحيل ترامب، ولذلك ليس من المرجح أن يمارس بايدن أية سياسات تعزز تلك الشعبوية، لاسيما وأنها تتناقض تماماً مع مبادئ الحزب الديمقراطي. والتوقعات تتجه بقوة نحو علاقات أفضل مع أوروبا، بالتوازي مع استعادة العلاقات الجيدة مع جيران أمريكا شمالا وجنوبا؛ كندا والمكسيك. كما إن جانباً من علاقات أمريكا بالعالم تغير في اليوم الأوَّل من تولي بايدن الحكم، مع عودة أمريكا لاتفاقية باريس للمناخ، وتأكيد الدعم للمنظمات الدولية وغيرها من الإجراءات والقرارات التي عكست توجهاً مغايراً لبايدن عن سلفه ترامب.

وعندما نتجه بأبصارنا نحو خريطة الشرق الأوسط، نجد السياسات الأمريكية حاضرة بقوة؛ خاصة في الملفين النووي الإيراني والصراع العربي الإسرائيلي. فقد انسحبت أمريكا في عهد ترامب من الاتفاق النووي الإيراني ووقفت المنطقة منذ ذلك الحين على حافة الحرب، فتارة استعادت المنطقة ذكريات "حرب ناقلات النفط" وتارة أخرى حبس الجميع أنفاسه من احتمالات شن هجوم في آخر أيام ترامب. ولذلك من المُؤمل أن يعود بايدن بأمريكا إلى الاتفاق النووي، خصوصاً أنه إنجاز إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، الذي كان بايدن نائباً له لثماني سنوات، ومن ثمَّ تهدأ التوترات في المنطقة.

لكن في المُقابل، لا يُمكن القول إن سياسات بايدن تجاه الصراع العربي الإسرائيلي ستختلف عن ترامب، فصاحب "صفقة القرن" سعى بوسائل عدة لإتمام "البيعة الخاسرة"، واعترف بسيادة المحتل الإسرائيلي على الجولان، وكذلك القدس عاصمة لدولة الاحتلال، فضلاً عن استمرار مُعاناة الشعب الفلسطيني القابع تحت الحصار.

خلاصة القول.. إنَّ حالة التصدع الداخلي للجسم الأمريكي على خلفية الصراع السياسي الحزبي- الذي وصفه بايدن بأنه "حرب حزبية همجية"- لن تساعد بايدن كثيراً في تصويب المسارات؛ بل إنَّ شواهد التاريخ تؤكد حتمية أفول الحضارات التي تتصدع من الداخل، وهذا الأفول سيكون أسرع بكثير مما لو خاضت حروباً وخسرتها، لذلك نرى أنَّ ثنائية "كورونا والصدع الداخلي" لن تسمح للولايات المتحدة بالعودة كما كانت عليه خلال سنوات ازدهارها، فـ"ماما أمريكا" باتت تُعاني الشيخوخة الحضارية، وفقدان البوصلة الأخلاقية، وما صراع اللقاحات إلا نموذج بسيط عن ضياع الأخلاق في النموذج الغربي بقيادة أمريكا، وانهيار حقيقي للرأسمالية المتوحشة، التي تقتات على جثث الضعفاء والمُهمشين.