التربية والتقليد

أنيسة الهوتية

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يولد المولود على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"، والفطرة في الإسلام هو الإيمان بالله وحده لاشريك له أي التوحيد، فالإنسان يُولد مُوحداً لذلك يُفضل أهل الفقه والدين وصف مُعتنقي الإسلام بالعائدين بمعنى العودة إلى صفاء الفطرة أو المهتدين إليها.

أمَّا في اللغة العربية فهي تحمل معنيين مِنها ما ذُكِر وهي الفطرة الروحية والآخر بمعنى خِلقة أو الصبغة البشرية التي خلقه الله تعالى عليها أي الفطرة الجسدية، وكِلا الفطرتين تتأثران بالمواقف التي يمر بها الإنسان مُذ نعومة أظفاره إلى ما شاء الله له أن يعيش، ويتغيران حسب إرادة النفس البشرية استرسالاً أو استمساكاً، تقليداً لغيره من الأنفس في محيطه وبيئته التي يعيش فيها ابتداءً من اتباع الأديان المختلفة والمذاهب مروراً بالعادات والتقاليد التي لربما تَثبُت أو تتغير قناعة بالاختلاف على المتفق عليه والخروج من السرب! وهذا أيضاً للتقليد، ولكن بما يختلف عن بيئته المحيطة به رغبة منه في التغيير الشكلي أو الروحي أو المزاجي علناً فيكونُ مُرتداً عن دينه، أو مجتمعه، أو عاداته وتقاليده، وحين يخنقه المجتمع يسعى للهروب منه إلى مجتمعٍ آخر يجد فيه مساحته الدينية المذهبية التي يسعى لها، أو الفكرية، أو حتى الأخلاقية! وهؤلاء يتبعون هدفاً نفسياً. ولكن التائهين لا هدف لهم، فَهُم فارغون "متمرمطون" يعيشون في بيئتهم دون إيمان بِها، مُجاملين فيها اتقاءً للتصادم، وحين يشتد بأسهم يعلنون إلحادهم أو فسقهم، وللإلحاد والفسق مسوقات ومسببات نفسية تساهم في اتساعه حسب النضوج المجتمعي وقدرته الاحتوائية.

ولوقاية الأبناء من الوقوع في الحالتين الأخيرتين يسعى أولياء الأمور في غرس تعاليمهم الدينية منذ الطفولة في فِكر أبنائهم حتى تنبُت مع طينتهم اللينة، وحين تتيبس وتتقوى تكون تلك البذرة قد تحولت إلى شجرة ممتدة الجذور شاهقة الأفرع ولامجال لها للسقوط، فهي ستبقى في تلك الأرض تستقي من عروقها الدم الذي منبعه ما غُرسِت بهِ بذرة الشجرة.

مُتناسين أن ليس كل أنواع الطين قابل للزراعة، أو قابل للتصلب على ما شُكِلَ عليهِ! وإن كبرت تلك الشجرة في هذا النوع من الطين غير المتماسك، فإنها ستسقط دون أدنى شك، وحين سقوطها فإنَّ الأرض تِلك ستصبح خواءً، وبِمكان الغرس ستظهر فجوةً لا يملأؤها إلا الهواء وكُلُ أنواعِ الفراغ! وإذا فات الأوانُ على ملأهِ بما هو مفيد، فإنهُ سيتحول إلى أرضٍ بور مع الأيام، أو إلى مِكب نفاياتٍ! وللأسف الشديد في زمننا الحالي الذي هو زمن الرويبضة فإنَّ النفايات تتلامع أمام عُيون الأغلب وإن لم يكونوا ذُباباًّ!

وما يُطَيبُ خاطر الإنسان في هذا الزمن، أنَّه يرى أولياءَ أُمور يسعون جاهدين لتربية أبنائهم على المبادئ والأخلاق، وإن اختلفت دياناتهم وثقافاتهم فإنَّ الأخلاق هي أم الفضائل. ولكن لازال التأسف وارداً في هذا السعي حين نجد أن هناك أبناءٌ وبنات ينبهرون بالبيئات والشخصيات القاتمة حولهم، خاصة مع وجود العالم الافتراضي، ونجدهم يقلدون المساوئ أكثر من تقليدهم للمحاسن! تحسيناً لمزاجياتهم المتقلبة للوصول إلى درجة "الكول مايند" واصفين أهاليهم بالقدماء و"بالبورينغ!" وأن الفتاة بكل وقاحة تتفسخ وتتعرى بحجة التطور، والشاب يرى أنَّ الدياثة تمدناً! وكل تلك الأفكار التي اغتالت الأديان السابقة، مُحاولةً اغتيال الإسلام أتت ولازالت تأتي من أشخاصٍ سقطت أشجارهم فملأت النفايات مكان غرسها، وتظاهروا بالسعادة ليتبعهم الغاوون، فتزايد عددهم وملأوا فراغهم ببعضهم البعض، فلا ناصح لهم ولا رشيد!

وكم يتألم الآباءُ على مثل تلك المواقف، حين تذهب التربية سُدى ويبقى التقليد الأعمى.