خالد بن الصافي الحريبي
كان يا ما كان في قديم الزمان قرية صينية بسيطة وطيبة، وفي يوم من الأيام عثر بعض أهلها على كنزٍ في أرض قريتهم. وخشية أن يسألهم جيرانهم أن يشاركوهم في الفضل ائتمروا فيما بينهم وخلصوا إلى أن يحولوا ثرواتهم إلى كهف لعله يخفي حرصهم الشديد. بل إنَّ الحرص الشديد تمكن منهم وجاءوا بوحش يحرس باب الكهف. ومع هذا لم يهدأ لهم بال، فأمسى كل واحد منهم يتخفى من أصحابه تحت جنح الظلام ليُطعم الوحش خوفاً وطمعاً حتى تضخم وأصبح الوحش مارداً وتنيناً سميناً عملاقاً.
وظلت أمور هؤلاء الأثرياء الجدد مستقرة وعلى مايرام إلى أن انبعثوا يوما ليتحسسوا من كنزهم وفوجئوا بالمارد عالقاً في باب الكهف من فرط ما سقوه وسمنوه فحال بينهم وبين ثرواتهم، ووقى الله جيرانهم سيئات ما مكروا وحاق بهم سوء تدبيرهم.
وتذكرنا هذه القصة بما حصل يوم الأربعاء السادس من يناير. فقد كان من المُمكن ليوم الأربعاء الموافق السادس من يناير من هذا العام أن يكون يومًا عادياً، يتخلله حدث مهم هو تأكيد الكونجرس الأمريكي على احتساب أصوات المجمع الانتخابي الذي فاز به الرئيس المنتخب الـ46 جو بايدن. ولكن ما حدث -لم يكن في الحسبان، فخلال 6 ساعات فقط أحالت تظاهرة لمؤيدي الرئيس الـ45 المنتهية ولايته إلى يوم مظلم في تاريخ أمريكا والديمقراطية حيث سيطر عليها المتطرفون من منظمات عنصرية مُؤمنة بتفوق العرق الأبيض واقتحموا مبنى الكونجرس ولا زلنا حول العالم نتابع تداعيات هذا الحدث الجلل لأنه إذا حرك حجر المياه الراكدة في داخل دولة عظمى ما تلبث موجاته أن تؤثر على حياة مئات الملايين حول العالم.
وفي خضم هذه الأحداث حصل تطور تاريخي لم يكن ليحدث بصورة طبيعية ولو أنفق خصوم أمريكا ما في الأرض جميعاً. فقد انقلب وحش الكِبر والجاهلية والعنصرية الذي سّمنه التغاضي عنه إلى حدثٍ أيقظ مارداً كان بالأمس نائماً عن المخربين المحليين. ومن المعروف أن مارد الدولة العميقة لا يستهان به إذ تتخفى شبكات علاقاته ضمن 1200 قيادي حكومي بين مُتغير وثابت مع كل إدارة جديدة؛ يسيطرون على قرارات وحدات حكومية يعمل فيها 4 ملايين موظف حكومي مدني وعسكري. فلماذا يستيقظ مارد الدولة العميقة؟ وما هي العِبر التي يمكن أن نستفيدها مما يحصل الآن؟
لماذا يستيقظ مارد الدولة العميقة؟
في كل تجمع بشري سواء كانت إمبراطورية مترامية الأطراف أو مجموعة صغيرة من الناس تتكون شبكات علاقات مُعلنة مبنية على النظم الرسمية والشرعية بين أطرافها كما تتكون شبكات علاقات غير معلنة مبنية على المصالح غير الرسمية والمشتركة للذين غلَبوا على أمر الدولة. وتظل هذه الشبكات مخفية تقضي حوائجها بالكتمان وتستيقظ في حالتين؛ عندما تتعرض مصالحها الضيقة للخطر في الدول غير المطمئنة التي تأخذ فيها هذه الشبكات ما تريده من الدولة غصباً، أو عندما تتعرض القيم الإنسانية للخطر في دول المؤسسات المطمئنة. ومثالاً على ذلك، لم يحصل انقلاب في العالم إلا ويكون وراءه مثل هذه الصراعات بين الشبكات الخفية، أو الدولة العميقة،. وما كاد يحصل في أمريكا في السادس من يناير أوضح مثال على الصراع بين شبكات المنظمات العنصرية التي ظلت خامدة رسماً تخالجها مرارة هزيمتها في الجنوب، نتيجة للحرب الأهلية الأمريكية خلال الفترة ١٨٦١- ١٨٦٥ والتي انتهت بانتصار الحكومة الأمريكية بقيادة الرئيس الأمريكي الجمهوري أبراهام لنكولن، ومع تقدم قيم الإنسانية الرحمة والإيثار وتعزيز كرامة الإنسان والعدالة الاجتماعية، ازدهرت القوة الناعمة لأمريكا داخلياً وخارجياً وخمدت معها قوى العنصرية الجاهلية، إلى أن استيقظت قبل حوالي ثمانية أعوام بعد فوز أول رئيس أمريكي أسود باراك أوباما. وظلت قوى الكِبر منذ إقرار الحقوق المدنية لكل المُواطنين دون تمييز منذ ستينات القرن الماضي الماضي تتخفى تحت ستار الدين تارةً وتحت ستار "الحق الدستوري للدفاع عن النفس بقوة السلاح" تارةً أخرى إلى أن فاز أول أسود في الانتخابات الرئاسية قبل حوالي 12 سنة، فوقعت أمريكا في فخ مغريات الرجعية. وخلال ثمانية أعوام استطاع قادة القوى الرجعية من الجمهوريين والديمقراطيين على حدٍ سواء أن يقنعوا الدولة العميقة في أمريكا أن تغض الطرف عن شحنها للمجتمع بالكراهية والبغضاء بدل الرحمة وتكديسها للأسلحة بدل العلم النافع وإنفاقها للأموال في نشر المعلومات المزيفة تخترع فيها أعداء مغلوب على أمرهم يجربون فيهم أسلحتهم. وليس سراً أن كبش الفداء الذي ضحى به هذا الفكر الخبيث هم المسلمون حول العالم الذين خربت هذه القوى بيوتهم بأيديها وأيدي بعض المسلمين المُغرر بهم.
ومربط الفرس أن الدولة العميقة اليوم استيقظت ولم يعد يخفى عليها أن لها عدوا حقيقيًا في الداخل. وخشية على آتٍ تقوض الأحداث وطنها وتداركاً للموقف تتعاون الآن كل مؤسسات الدولة في أمريكا في إنقاذ سيادة القانون وكبح جماح شبكات العنصرية الرجعية، وبدأت بتصنيف المتطرفين في المجموعات العنصرية المهاجمة على أنهم إرهابيين وخطر على الأمن القومي الأمريكي، وتسخر اليوم آلة مرعبة تشمل شبكة من ما لايقل عن 17 وحدة حكومية معنية بالاستخبارات والأمن لقطف رؤوس قد أينعت تبدأ بالمخربين مقتحمي الكونجرس وتنتهي بغرس سكاكينها في المحرضين ومنهم الرئيس الطائح الأمريكي الـ45، ما لم يفدِ نفسه بصفقة عظيمة يخون فيها كل أنصار الأمس.
تطلعات للمستقبل
إني مُؤمن إيماناً تاماً بأن أبلغ عبارة تلخص المستفاد من الأوضاع الراهنة هو القول المأثور لأعز الرجال وأنقاهم السلطان قابوس طيب الله ثراه "سيادة القانون فوق كل اعتبار". ومن المعلوم أن طريق أي مجتمع جاد في العيش في نعمة دولة المؤسسات المطمئنة إلى بلوغ سيادة القانون مليء بالمغريات التي قد نضعف أمامها وتدعونا أن نُغَلِب مصالحنا الضيقة على قيمنا الإنسانية. وما تلبث هذه المغريات لتحقيق مصالحنا الضيقة إلا أن تتحول لشبكات مبنية على نباتات التطرف والتعصب والتحزب والشللية السامة التي ترفضها أي تربة طاهرة. لذا فإنِّي أتطلع لمستقبل نواصل فيه التدرج نحو دولة المؤسسات المطمئنة التي يتعاون ويتشارك فيها الجميع، كلٌ قدر ما يُسِر له، على أن نقي أنفسنا الوقوع في فخ مُغريات المصالح الضيقة لشبكات علاقاتنا العميقة، والخروج بأمتنا من ظلام كهوف الطمع والرجعية إلى نور الإيمان بقيم الرحمة والإيثار وتعزيز كرامة الإنسان والعدالة الاجتماعية.