الوعي السياسي بانقلاب الأوضاع الاجتماعية

د. عبدالله باحجاج

عندما كنتُ أعمل الفكر في التوالي العددي فائق السرعة للسياسات والقرارات المالية الحكومية داخل المنطقة الاجتماعية، تواردَت إلى ذهني فورا درجة الوعي السياسي بمآلاتها القريبة والمتوسطة، وهو توالي لا يبدو أنه سيتوقف أو ستكون له نقطة نهاية، وهنا تكمن أهمية التساؤل عن الوعي السياسي بالمتواليات الكمية والنوعية لتِلكم السياسات والقرارات، ومن ثمَّ إلى أي مدى لدينا الوعي بنتائجها أو تداعياتها؟

لا يُمكن أن يستمر هذا التوالي مستهدفا المنطقة الاجتماعية دون أن يكون هناك علم بالمآلات، في ضوء العلم بأوضاع المجتمع المالية وخصوصية سيكولوجيته، لأن هذه السياسات والقرارات الحكومية يقذف بها داخل مجتمع متفاعل وحيوي، وسريع التأثر بها حتى قبل أن تظهر انعكاساتها، فكيف لو ظهرت؟

ولن ننسى -ولا ينبغي التناسي- أنَّني أتحدث هنا عن ركن من بين أهم أركان الدولة، وهو "السكان"، لكن في بعده الاجتماعي الذي هو منطقة المشاعر والعواطف، والحقوق والواجبات، والولاء والانتماء، والتضحية والفداء، تأطر المجتمع على هذه الوجدانيات، وغُرست فيه؛ بحيث أصبح على استعداد للدفاع عن وطن ببناه الفوقية والتحتية، وبمجموع مصالحه الوطنية والأجنبية في إطار وحدته الترابية، وهذا هو طبيعة السياق الذي أدافع عنه في جل كتاباتي حتى قبل التحولات الجديدة، فكيف بها وقد أصبحت تمس الجوهر وتطال المضامين بصورة غير مسبوقة.

فمرحلتنا الوطنية الراهنة تحتِّم بعد أن شهدت مجموعة كبيرة من المتواليات العددية من السياسات والقرارات المالية،  أن أطرح التساؤل التالي: هل لدى وعينا السياسي السلطوي فهم عام بانعكاسات الخطط المالية والسياسات الحكومية على المجتمع، ومن ثم على مستقبل الدولة غير المالي؟ وهل ينفتح هذا الوعي على احتمال استغلال انعكاساتها الاجتماعية من قبل فاعلين خارجيين قدامى وجدد؟

فكُلنا يعلم بالمتغيرات الجيوسياسية الإقليمية والعالمية، ولا يُمكن فصل المتواليات الداخلية عالية السرعة عن محطينا الخارجي، وكان يستوجب عند التفكير فيها أن لا نتجاهل أو نقفز فوقها؛ فمؤشرات تحريك الجغرافيا من أطراف أساسية من جغرافية الخليج وشبه الجزيرة العربية لم تعد سرية، وقد أصبحت في وعي كل متابع؛ لذلك فالمتواليات من حيث الكم والنوع والزمن، لم تعد تحكمها اعتبارات داخلية بصورة خالصة حتى يتم تجاهلها، فهى عملية متزامنة الأبعاد الداخلية والخارجية.

ولو حلَّلنا القرارات والسياسات الحكومية المتوالية، فسنجد أنها تستهدف المنطقة الاجتماعية حصريا، ولم تفرق في المستويات الأعلى أو الدنيا، القادرة وغير القادرة، ولا تمييز بين المناطق الاجتماعية الثقيلة أو غيرها، وبعض القرارات لو تأملنا في مردودها المالي، لن تُحدث الفارق المالي لموازنة الدولة، بل العكس سيكون التأثير السلبي لها على الوجدانيات التي تربط المواطن بوطنه، والمواطن بسلطاته، وتعطينا رؤية أخرى مختلفة عن السياقات المعلنة، بصورة تُخرِج المتواليات العددية عن مفهوم الإصلاح الذي ينبغي أن يحافظ على التوازنات الاجتماعية، ويقلل من المساس بالمكتسبات الاجتماعية.

وكلُّ ذلك يُدخلنا في أتون بعثرة الإنجازات وصناعة الاحتقانات، فهذه المتواليات لم تفرق ولن تفرق بين القوي ماليا وبين نظيره القابع في آخر السلم الوظيفي، تتعامل مع الكل بمنطق المساواة غير العقلانية، وترمي بالأغلبية في القاع الاجتماعي، فأصحاب الدرجة 18 في الخدمة المدنية، لم يسلموا من طاحونة البعد الاجتماعي، ولم يسلم منها كذلك العمال ولا الحراس في الشركات الحكومية.. ومع هذا يأتي مسؤول في المالية يحذر المجتمع من أن آلية التقاعد العمياء لم تنته، وأنها سارية المفعول عند الحاجة، وذلك في إشارة منه لاكتمال نسبة الـ100% للمتقاعدين.

بلادُنا في سباق مالي خالص، ليس فيه روح حتى ننسب له التفكير؛ لأن هناك تساؤلا مهما جدا يُحاجِجه بالمنطق، وهو كَم من سيولة مالية ستذهب لخزينة الدولة جراء تحطيم هذه الفئات المسحوقة من المواطنين التي تتقاضي أصلا رواتب ضعيفة؟ لذلك؛ لا يُمكن أن نُطالب المتواليات العددية بالرأفة بالمواطن، وتفكيرها الحسابي يقودها لتجريد المؤسسات والشركات من أية أبعاد اجتماعية في عملية إعادة الهيكلة أو التقاعد الإلزامي، ولم نجد مسارا آخر غير مخاطبة الوعي السياسي بالمآلات الاجتماعية القريبة وتقاطعات الأجندة الداخلية والخارجية في مرحلة صناعة الاحتقانات الشاملة من خلال عدم عقلانية المتواليات العددية من السياسات والقرارات.

لن ننكر إعمال الفكر، لكنه باتجاه السباق المالي الخالص والمجرد من الأبعاد الاجتماعية، وهذا ما نجده في استشراف معالي وزير المالية عندما أوضح أنَّ بلادنا ستحقق فائضا ماليا في نهاية خطة التوازن المالي 2024، وهذه عملية حسابية مجردة وبصورة خالصة، لأنها لم تعترف بضحايا الأبعاد الاجتماعية المترتبة عليها، ما عدا في حالات مُثيرة للجدل مثل فاتورتيْ المياه والكهرباء مثلا.

وعندما حاول العقل المالي فهم الأبعاد الاجتماعية للمتواليات العددية، جاء إقرار معالي أمين عام وزارة المالية بتأثيرها المحدود على المجتمع والاقتصاد، فكيف يكون التأثير محدودا داخل المنطقة الاجتماعية وأوضاع أغلبية الأسر العمانية منذ أربعة أشهر تهتز بصورة مقلقة ومتصاعدة؟ والمحاكم تعجُّ الآن بقضايا الشيكات، وستتصاعد عدديا واجتماعيا.

وستتأزَّم الأوضاع الاجتماعية عندما تتقاطع تداعيات كامل القرارات والسياسات المالية مع تداعيات التقاعد والضرائب ومنظومة الرسوم ورفع الدعم عن الخدمات الأساسية...إلخ، ومؤشرات الغلاء الراهنة قد بدأت ترسم صورة قاتمة للمستقبل الاجتماعي ليس على أحلام وآمال جيل الشباب في الحق في السكن والزواج؛ فمؤشرات ارتفاع أسعار بعض مواد البناء الآن مقلقة، بل على حقوق أساسية كالأكل والشرب والتربية والتعليم.. إذا ما استحكمت حلقات السياسات والقرارات على الفرد والأسرة.

وقد تأثرتُ كثيرا بمأساة زميل عمل سابق، نعلم صِدقه وظروفه ومرضه الدائم، فرغم تقاعده الإلزامي منذ أكتوبر الماضي وحتى الآن فمعاشه التقاعدي لم يتسلم منه ريالا؛ إذ إنَّه محجوز في البنك لعدم تسويته ديونه بسبب البيروقراطية والمماطلات في منحه التمديد إلى السبعين عاما، فمرة يُطلب منه رسالة من صندوق التقاعد، وأخرى من وزارة العمل تُثبت عدم ارتباطه بوظيفة أخرى.

وبين البنك وشركة التمويل سِجَالات حول راتب ومكافأة هذا الموظف التي لم تُمنح له من قبل وزارة الإعلام حتى الآن، مثله مثل الآخرين في ظفار، وأخيرا وجد نفسه أمام إشكالية قانونية قد تزج به في السجن ما لم يقدر ظروفه، فقد حولت شركة التمويل شيكاته لرفع قضية قضائية ضده، لامتناعه عن دفع الأقساط الشهرية.. أليس هذا نموذجًا لانقلاب أوضاع رب أسرة، يعيل أبناء في المدرسة وباحثين عن عمل؟ وهل كان هو السبب في عدم الوفاء باستحقاق الشيكات؟ من ينبغي أن يُحاكم هنا؟ بل: كيف ومن أين يؤمّن أساسيات حياة أسرته؟ وهذه حالة من الحالات الكثيرة التي يتقطع بها السبل بسبب هذا التقاعد الإلزامي، وحجم معاشات التقاعد الضعيفة، ومكافآتها الهزيلة لموظفي الخدمة المدنية، فكيف بعد تطبيق منظومة الضرائب ورفع الدعم الحكومي؟

وكنت مؤخرا، في نقاشات مع كاتب صحفي مشهور حول أسباب غيابه عن المجيء للمقهى للكتابة كالمعتاد؛ أجاب قائلا: "إمكانياتي المالية الجديدة لن تسمح لي أن أدفع 3 ريالات يوميًّا على المقهى". هذه مؤشرات للدلالة على تأثير الطبقة الوسطى كذلك، فإنفاق 90 ريالا على شرب قهوته، قد أصبحت عبئا على موارده المالية الجديدة.

وهنا.. ينبغي أن نستدعي كذلك مؤشر 40% من الأسر العمانية لن تتمكن من دفع فاتورتي الكهرباء والمياه دون دعم حكومي، وباعترافات حكومية، ونستدعي كذلك ما ذكرته إحصائية رسمية تفيد بوجود أكثر من 88 ألف متقاعد لا يتجاوز معاشهم التقاعدي عن 400 ريال، وآلاف آخرون يتقاضون 500 ريال وهكذا تصاعديا.. وهذا أكبر المؤشرات التي تفتح لنا ملف انقلاب الأوضاع الاجتماعية دون دراسة آثارها، والاقتصار على المفهوم التقليدي المستورد من الخارج للحماية الاجتماعية المحدود جدا، والضيق جدا.

وبالتالي؛ يستوجب على الوعي السياسي أن يعلم طبيعة المجتمع الجديد الذي يتم إعادة صناعته للنهضة المتجددة من خلال تحطيم المكتسبات الاجتماعية، وكيف الطاحونة المالية تسحق معظم الأبعاد الاجتماعية دون رأفة، كأصحاب الدرجات الدنيا والمهن الضعيفة.. بحجة الترشيد وتوفير السيولة المالية لخزينة الدولة، فكم من سيولة يتم توفيرها من هذه الدرجات "مكرر"؟

وكذلك، كيف يتسبَّب التقاعد الإلزامي في فتح خيار السجن للكثير من الموظفين الذين تفاجأوا بهذا التقاعد، وقلب أوضاعهم رأسا على عقب؟ فهل هذا النوع  من المجتمع يُمكن الرهان عليه لمواجهة التحديات القديمة والجديدة؟ وهل ستكون لدينا طبقة وسطى تدافع بتوازن عن منظومة القيم والأخلاق وتعزيز مفاهيم المواطنة والانتماء والولاء؟ وما مستقبل الطبقات الثلاث؟ تساؤلات خاصة للوعي السياسي السلطوي فقط.