إرادة الإصلاح

حاتم الطائي

◄ النظام الأساسي للدولة يُرسخ منظومة دستورية متينة تدعم التوجهات والأهداف الوطنية

◄ 3 أركان رئيسية تكفل استقرار الدولة وفق أسس ومبادئ "أبو القوانين"

◄ إرادة الإصلاح السامية تنبُع من صدق وإخلاص السُّلطان المُصلح المُجدِّد

نقلة حضارية غير مسبوقة أحدثها النظام الأساسي للدولة الصادر بموجب المرسوم السلطاني السامي رقم 6/ 2021، الذي أصدره حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم- حفظه الله ورعاه-، وتلك النقلة لم تكن فقط على مستوى استقرار آلية انتقال ولاية الحكم، أو فيما يتعلَّق بجوانب الحقوق والحريات التي أكَّد عليها صراحة بنصوص لا تحتمل أكثر من تفسير، بل أيضاً على مستوى النظام بأكمله، باعتباره الوثيقة الدستورية العُليا في الدولة، وأبي القوانين، والقانون الأعلى، وغير ذلك من الأوصاف التي يُمكن أن نُطلقها على النظام الأساسي للدولة.

فمنذ عام 1996 عندما صدر أوَّل نظام أساسي للدولة وعُرف باسم "الكتاب الأبيض"، سعى المغفور له بإذن الله تعالى السُّلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- لوضع منظومة دستورية مُتكاملة الأركان تُواكب الظرف السياسي والاقتصادي والاجتماعي وقتذاك، وحرص- رحمه الله- على التأسيس لدولة القانون والمُؤسسات، ومن ثم ارتكز البنيان القانوني للدولة العُمانية الحديثة على تلك المنظومة الدستورية، ومع تطور الأوضاع وحدوث العديد من المُتغيرات، كانت الحاجة إلى تعديل ذلك النظام في 2011، واستمر الحال كما هو عليه حتى 11 يناير 2021، وهو اليوم التاريخي الذي شهد صدور النِّظام الأساسي الجديد للدولة، بما تضمنه من 7 أبواب اشتملت على 98 مادة.

ومن خلال قراءة مُعمقة في مواد ونصوص هذا النظام، يتبين لنا مجموعة من الحقائق والدلائل والإشارات البالغة الدقة، وجميعها يُحقق الهدف الأسمى منه؛ وهو بناء منظومة دستورية متينة تدعم توجهات الدولة العمانية الحديثة وفق موجهات مسيرة نهضتها المتجددة، وبما يواكب تطلعات الشعب نحو عُمان أكثر انفتاحاً بناءً على أسس ثقافية رصينة، وقاعدة معرفية مُحكمة، ومنظومة عدالة اجتماعية لا ترتضي الظلم لكائن من كان، ونظام رعاية صحية يكفل الحق لكل مُواطن في أن ينعم بالصَّحة، إلى جانب اهتمام بالغ بالتعليم وجودته والبحث العلمي والابتكار، لضمان الوصول إلى اقتصاد المعرفة، ومجتمع المعرفة، إضافة إلى ترسيخ قيم المساواة بين المواطنين ورفض التمييز على أي أساس كان، في تأكيد بالغ الدلالات على حقوق المُواطنة، التي ترسخت على مدى العقود الماضية. ومما يُميز النظام الأساسي الجديد للدولة، صياغاته القانونية الدقيقة؛ إذ لم يترك الباب مفتوحاً لأيِّ تفسير دون ذلك التفسير الذي يقصده المُشرِّع، بل يُفهم من أيِّ تفسير أنه للصالح العام وفتح مجال أرحب يُحقق المنفعة العامة للوطن والمواطن.

ويمكن القول إنَّ النظام الأساسي الجديد للدولة رسخ 3 أركان دستورية لا غنى عنها لضمان منظومة سياسية واقتصادية واجتماعية مُستقرة، لعقود مُقبلة بإذن الله تعالى، فطبيعة الأنظمة الأساسية والدساتير أنَّها تُصاغ وتصدر لتبقى لأطول فترة مُمكنة، ومن ثمَّ فهي تضع الأسس والمبادئ والموجهات، ولا تنص على قوانين أو عقوبات أو أي تفصيل قد يكون مُخلاً عند تطبيقه، إذا ما تغيَّرت الظروف وتبدلت الأحوال؛ فمثلاً الدستور الأمريكي الحالي صدر قبل 233 سنة تقريبًا مع إجراء تعديلات عليه، والدستور الفرنسي صدر في عام 1958، وهو عبارة عن تطور دستوري للدستور الذي وضع عام 1791 بعد سنوات من الثورة الفرنسية، وغير ذلك من الأمثلة التي تُبرهن على محورية الدساتير ودورها في إرساء الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

والأركان الثلاثة هي: نظام الحكم، والمنظومة الاجتماعية، والمنظومة الاقتصادية. أما فيما يتعلَّق بنظام الحكم، فلأول مرَّة في تاريخ الدولة العُمانية الحديثة، ينشأ منصب تحت مُسمى "ولي العهد"، يضمن الانتقال السلس للسلطة، ليرسخ من الاستقرار السياسي الذي ينعم به وطننا، وقد أفرد النظام الأساسي للدولة 8 مواد في الباب الأول "الدولة ونظام الحكم"، للحديث بالتفصيل عن آلية انتقال الحكم، والتي تحددت في مُجملها بانتقال ولاية الحكم من السُّلطان إلى أكبر أبنائه سنًا، مع تعيين من تكون له ولاية الحكم وليًا للعهد. وبذلك يكون النظام الأساسي للدولة أرسى آلية مُحددة ومُستقرة لضمان انتقال ولاية الحكم، ومن ثمَّ دعم الاستقرار السياسي، وما يترتب عليه من استقرار اقتصادي جاذب لرؤوس الأموال، ومُعزز لمكانة عمان إقليمياً ودولياً.

المنظومة الاجتماعية تمثل الركن الثاني من أركان النظام الأساسي للدولة؛ حيث أفرد النظام المادة 15 بالكامل للحديث عن المبادئ الاجتماعية بصورة مُباشرة، إلى جانب العديد من المواد الأخرى التي تنص بوضوح على تفاصيل هذه المنظومة، سواء في باب الحقوق والواجبات العامة، أو فيما يتعلَّق بالنظام التعليمي، أو منظومة الرعاية الصحية التي يتعين على الدولة أن تكفلها، وتحقيق المساواة بين المرأة والرجل، ورعاية الطفل، والأشخاص ذوي الإعاقة والشباب والنشء، والحق في التعليم وإلزاميته حتى نهاية مرحلة التعليم الأساسي، إلى جانب حُرية البحث العلمي ورعاية الدولة للباحثين والمبتكرين، وحرية الإبداع الفكري ورعاية المُبدعين، والأهم من ذلك كله التأكيد على الحقوق والحريات المكفولة لكل مُواطن، بل إنَّ النظام يفرض على السلطان- من خلال قسم اليمين- أن يرعى "مصالح المُواطنين وحُرياتهم رعاية كاملة"، وأكد النِّظام على هذه الجزئية في نص المادة 49، والخاصة بمهام وصلاحيات السُّلطان، والتي من بينها "رعاية حقوق المُواطنين وحُرياتهم"، وهذا يدل على الإيمان الراسخ بدور هذه الحقوق والحريات- التي هي حق أصيل- في نهضة البلد وتقدمه.

وإذا ما تحدَّثنا عن المنظومة الاقتصادية، يتَّضح لنا أنها تضع في صدر قائمة أولوياتها "حُرية النشاط الاقتصادي على أساس العدالة الاجتماعية"، وهذه الحرية الاقتصادية تتماشى مع النظام الاقتصادي العالمي القائم على التجارة الحُرة والاقتصاد المنفتح على الجميع، بما يُحقق العدالة الاجتماعية، ولا غرو أن نجد ذلك الربط المُحكم بين الاقتصاد والعدالة الاجتماعية، فكلاهما يهدفان لتحقيق رفاهية المُواطن وتوفير العيش الكريم له، وما ذلك الربط إلا تجسيد لعبقرية المُشرِّع الذي وضع مواد النظام الأساسي للدولة وفق فلسفة دستورية واحدة ومُتحدة، تستهدف في أساسها البناء العام للدولة، وتحقيق التنمية الشاملة المُستدامة، وذلك يتحقق دون القواعد الدستورية الراسخة التي أرساها النِّظام.

وختامًا.. إنَّ إرادة الإصلاح التي يتحلى بها السُّلطان المُجدِّد، حضرة صاحب الجلالة المُعظَّم- أيده الله- تتجلى يومًا تلو الآخر، منذ الخطاب التاريخي (23 فبراير 2020) الذي حدَّد فيه جلالته- أعزَّه الله- الأهداف الوطنية الكبرى التي يسعى لتحقيقها، بدءًا من إعادة هيكلة مُؤسسات الدولة لتحقيق الإصلاح الإداري، وما تلاه من أوامر وتوجيهات سامية لتفعيل المساءلة والمُتابعة، مرورا بالإصلاح الاقتصادي من خلال إنشاء كيانات اقتصادية مُمكَّنة، وصولاً إلى إصلاح سياسي واسع، يُمثل درة تاج هذه الإصلاحات.. ولنعلم جميعًا أنَّ الإرادة السامية لتحقيق الإصلاح إنما تنبع من صدق المُصلح وإخلاصه التام للوطن والمُواطن، مصداقًا لقوله تعالى: "إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ".