سارة بنت علي البريكية
تتحدث الأمكنة تارة عن غياب لم تعهده من قبل فتنكب على نفسها حداداً فحزناً وتلتحف السواد الذي لم ترضَ بديله حتى الساعة، وتختلط مشاعر الحزن في الزوايا والاتجاهات والآفاق لتكون أيقونة اليتم لحافاً قاتماً بها هنا وهناك، فتلك التفاصيل التي حاكها تعب الحياة يتقطر عليها ماء عيونها حزناً على الباقي فينا حتى الممات، فتلك الوجوه وتلك الشخوص والتعابير لم تقو على قدر أخذ منها من جعل منها متحققون متميزون ناجحون متعلمون، إلا أنه ما كان منها إلا أن تقول إنا لله وإنا اليه راجعون، وحينما تصاب البسيطة التي تقلنا في حبيبها فإنه ورغم غمراتها وحوادثها وتقلبها إلا أنه لم نعهدها من قبل ناءت عن حمل ما عليها لتكون في ذلك اليوم شيئا مختلفا، إلا أنها فعلا كانت وقد علمنا بعد ذلك السبب.
ولم نشعر على مدار نبضات القلوب ودقات الصدور فينا من قبل بأنه ودوراته قد تهادى فيما مضى منذ خلقه أحزانا على أحد مثلما بدا لنا كوننا في ذلك اليوم وأيضاً لاحقاً علمنا سبب ذلك، ولم يصلنا أنه رغم مائه وقطراته التي تتشكل محيطات وخلجان وأنهارا قد عبر من قبل عن عظيم فقد لعزيز أعزه، مثلما ساده في ذلك اليوم صمت على مصاب جلل وفقد عظيم ورحيل كبير فجع العالم برمته وأحزنه من أقصاه إلى أقصاه، فها هي المدارات والحركات واللحظات والخطرات والورقات والسكنات يدهشهن ترجل العظيم من على دنيانا إلى مثواه الأخير حيث لقاء رب العزة والجلال.
هكذا هي سنة الحياة فلا حي باقٍ، ولا مخلوق دائم، فالخلود لله والبقاء له جلَّ جلاله، فيا الله ارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه، وتلطف بنا إذا يئس منِّا الطبيب وغادرت الروح الأجساد وبكى علينا الحبيب وودعنا الأهل والأصحاب، وتخلى عنَّا القريب والبعيد وارتفع النشيج والنحيب، وقبل ذلك لا تكلنا إلى حولنا وقوتنا وارحم عجزنا وفاقتنا سبحانك اجعلنا ممن يفوز برضوانك في الحياة الدنيا والآخرة يا الله.
هكذا هي حياتنا عش ما شئت فإنك ميت، وقل ما شئت فإنك مودع، فرحم الله من كان يوماً أراد لنا عزا ومجدا وسؤددا، فقد كانت عُمان قبله أرضا يسودها فقر وضياع للتعليم وافتقار في الصحة وضعف في المعيشة، نعم كانت عُمان قبله بلدا أنهكها المرض والتخلف وساد في أهلها جهل وأحوال أدت إلى تأخرها عن العالم المتطور، إلا أنه ومنذ مجيئه واعتلائه العرش في الثالث والعشرين من يوليو المجيد ازدانت عُمان بحلة قشيبة، فمضى تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته واهبًا عمره لتكون عُمان وأهلها في نعيم، ووهب حياته لتكون عليها الحياة فكانت ولله الحمد.
وقد كان مولانا جلالة السلطان قابوس طيب الله ثراه والخالد فينا يعمل ليل نهار من أجل الانتقال بعُمان إلى دولة عصرية يضاهى بها ففعل، فكان هنا التطور والحداثة، وكانت هناك الخطط تترجم في مختلف الميادين والمواقع عملا مستمرا وجهودا مضنية تبذل وبذلت.
فيا أيها الأب الرحيم العطوف الحاني والدنا السلطان الخالد فينا طيب الله ثراك رحلت عنَّا في وقت الأمة ونحن بحاجة ماسة لك، إلا أنه يا مولانا اطمأن حيث ترقد بسلام، فقد خلفك سلطان الخير والمهج، سلطان العروبة والوطنية المحب لشعبه وأهل بلده، السلطان الفذ القدير الحكيم المقتدر بعد الله، إنه مثلك تماماً، فقد أحياك فينا مثلما أنت أصلا حي في قلوبنا على الدوام، إنه هيثم هيثم الذي وصيت، فكان ولا زال خير خلف لخير سلف، فالله نسأل له التوفيق في مسيرته المظفرة، وأن يهيأ له البطانة الصالحة التي تعينه على حمل الأمانة والمسؤولية، ولا شك أننا خلفه ماضون بلا شقاق ولا فتن، وكلنا سمع وطاعة له.
مولانا جلالة الراحل السلطان قابوس الباقي فينا حي لم تمت، نبشرك بأنَّ عُمان لا زالت تستنير بتوجيهاتك، وتمضي بتعليماتك، وتنهج نهجك القويم الرشيد، فهي بقيادة مولانا جلالة السلطان هيثم حفظه الله في ثبات، وهي برؤاه وفكره النير وحكمه العادل في هبات وفي أمن وأمان وخير عميم لا ينالها السبات، فهي من تقدم إلى آخر، ومن حسن إلى أحسن والله يحفظ المسيرة.
لم نكن يومًا ننشد التأخر والبقاء بعيداً عن المتقدمين، فعمان بلد يعيش تكاتف شعب وتوحد كلمة ووفاء عهد ووعد وسعد، فكان قابوس بدأها وجاء هيثم ليكملها بالخير والازدهار والتطور والتقدم والنماء، فالرحمة يا مولانا تغشاك والمغرفة تتولاك وجعل الله قبرك روضة من رياض الجنة، ووفق الله سلطاننا العظيم هيثم لما فيه خير عُمان وأهلها وهو أهلها وبارك الله المساعي والجهود.. وإلى لقاء.