المعتصم البوسعيدي
تشتعلُ الروح حينَ تمرُ ذاكرة الأيام في لحظةٍ غارقةٍ بالتأمل، صوتٌ يُحدثُ جلبةَ مشاعرٍ لا حدودَ لها، طيفُ سيارةٍ تسيرُ في الأماكنِ الحالِمة، وخيالُ إنسانٍ قطعَ المسافاتِ شغوفاً بالمحبةِ والهمةِ العالية، وأحبةٌ واقفينَ على نواصي كلماتهِ كانوا يغرفون من بحرهِ صيد إنجازاتِهم، وفجأة بعثرتهُم السنون؛ فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من تبِعَ خطاهُ في مسارِ الغُربةِ الجوفاء، حتى إذا جاءَ القدر تلاشى كُلُ شيء وصارَ عيسى نجماً لم تسعهُ الأرض؛ فسكنَ السماء.
في قريةِ الأخضر بينابة سمد الشأن التي ولِدَ فيها، كانَ وفياً لقيمِ أجدادهِ المُرابطينَ لتُرابِ الوطن؛ فهو حفيدُ الوكيل السيد الأفخم، وابنُ فارس الجوهرة الشُجاع الأكرم، نهلَ من الفلجِ النقاء، ومن القلعةِ الأصالةِ والبهاء، ومن النخيلِ الصبرَ والجَلدَ والعطاء، ومن البيتِ العود التكافلَ والترابطَ والسخاء، مُثابراً عجنتهُ الحياةُ وكونتهُ الدنيا، فكانَ المُعلم المُربي والأخ المُغذي والصديق الوفي. مُتسع الأُفق، عميق الفكر، جميل الألق، إخصائي النفوس وأستاذ الدروس، والمتواضع الذي توارى خلف الأنظار في زمنٍ لا يُقدّر أبطاله، فصارَ عيسى نجماً لم تسعهُ الأرض؛ فسكنَ السماء.
أسسَ الفريق الأخضر، ذاكَ الذي رواه بدمهِ حتى أزهر، كما كان نبضهُ دقات تطوع مُجتمعي، أحاطَ بكُلِ جانبٍ خبرا، وانثالَ خيرهُ مطرا، أبٌ روحي احتضنَ الجميع ولم يكتفِ بحدودِ قريته، فأشرقت شمسهُ بالمضيبي وركض كغزالٍ يقطنُ قِممِ الجبال الشاهقة، فعرفه العنابي إدارياً لامعاً وخبيراً واسعاً، وكان في جميعِ الأحوال عزيز الانتماء، رياضيٌ مُضطلعٌ يعشقُ الأحمر وينصهرُ فيه، حتى أنَّه لا يحتمل مشاهدة اللحظاتِ الحاسمة بنزقٍ طفولي، متيمٌ بفريقهِ مُسرفٌ بحُبهِ والهيام، فهو عيسى.. نجمٌ لم تسعهُ الأرض؛ فسكنَ السماء.
كان طباخاً ماهراً لا يُضاهى؛ طعامهُ مصنوعٌ بخلطاتٍ فريدةٍ يعدها بصدقٍ ومحبة، كما أنَّه طباخ أفكار وصاحب يراعٍ وكتاباتٍ آسرة، له سلسلة قصصٍ ــ ينشرها عبر رسائل "الواتساب" ــ عنونها "بحكايات من الزمن الجميل يرويها لكم بوحمد" لم يسعفهُ القدر ليجمعها بكتابٍ جامع شامل يحمل اسمه أو حتى ليُكمِلها ويحصر أحداثها، ذلك القدر الذي رضيَ به واستقبله بصبرٍ جميل على ابتلاء رباني عادل؛ فلم يشعر بآلامهِ أحد حتى أقرب النَّاس إليه، يواري حزنه تحت أهدابه، وقد وصف طبيبه هذا الصبر بالنادر الصعب، فكبريائه لا يقبل الانحناء والشفقة، فذاكَ عيسى.. نجمٌ لم تسعهُ الأرض؛ فسكنَ السماء.
اختارهُ الله إلى جوارهِ في مساءِ يومٍ "نوفمبري" حزين على ذاكرةِ الوطن المكلوم برحيلِ أعزَّ الرجالِ وأنقاهم، فحلقَ طائر الأخضر بعيداً تاركاً أثر، بكته البواكي ورثته القوافي، ولم تزل مشاعر فقدهِ مُتتالية، أنى وجهنا بصائرنا نبصره، رحلَ طيب الناس رقيق الإحساس، زارع الأمل، مستشار الحياة، لم يكن مثالياً؛ لأنه إنسان يُخطئ ويصيب، لكن سيرته محمودة الأقوال والأفعال، وعلى ذلك تصطلي أفئدتنا لمجرد ذكره، ودموعنا هاربة من حقيقةِ وداعه، إنما العزاء عيسى نجمٌ لم تسعهُ الأرض؛ فسكنَ السماء.