الآمال الاجتماعية في الخطة الخمسية العاشرة

 

 

د. عبدالله باحجاج

تابعتُ تلفزيونيًّا، وعبر التواصل الاجتماعي، تصريحات مَعَالي وزير الاقتصاد عن الخطة الخمسية العاشرة (2021-2025)، وكانت مُتابعتي مسيطر عليها خطة التوازن المالي (2021-2024)، خاصة من حيث تناغمهما مع الأهداف، وأهم ما استوقفني فيها: زيادة الرفاه الاجتماعي، وتوفير 135 ألف وظيفة خلال سنوات الخطة الاقتصادية، وبُعيد الانتهاء من المتابعة، تساقطت على الفكر من كلِّ الاتجاهات مجموعة تساؤلات مهمة؛ أبرزها:

كيف ستتمكَّن الخطة الخمسية من زيادة الرفاه الاجتماعي طوال سنواتها الخمس في ظل خطة التوازن المالي التي تفكِّك مُكتسبات هذا الرفاه المتفاوت بطبعه، وتشدِّد قبضتها الحديدية على الأوضاع الاجتماعية؟

هل 135 ألف فرصة عمل كافية لإبطال مفعول قضية الباحثين عن عمل، وجعلها ضمن السقوف الآمنة؟

ما طبيعة هذه الوظائف في ضوء ما يتوقعه الخبراء من استمرار تداعيات أزمتي كورونا والنفط لسنوات؟

هل نجاح التنويع الاقتصادي خلال الخمس سنوات المقبلة سيخفف من ثقل الضرائب والرسوم على المجتمع، والعودة بصورة متوازنة للدولة الاجتماعية؟

 

واقع ومستقبل الرفاه الاجتماعي

بحثتُ في المراجع المختلفة عن معنى ودلالات الرفاه الاجتماعي، ووجدته عبارة عن مجموعة العوامل التي يحتاجها الشخص للتمتع بنوعية حياة جيدة، وهو يشمل -وفق التعريفات- الأشياء التي لها تأثير إيجابي على نوعية الحياة؛ مثل: العمل اللائق، والراتب الذي يمكِّن الفرد والأسرة من تلبية الاحتياجات، والإسكان، والتعليم والصحة. وهنا التساؤل: كيف ستتم زيادة الرفاه الاجتماعي بعد إحالة الآلاف من الموظفين إلى التقاعد، وإنزال رواتبهم إلى النصف؟ وهل الحد الأدنى الجديد للأجر (325 ريالا) سيحقِّق للجيل الجديد من شبابنا هذا النوع من الحياة، وهو في أجندته تأسيس منزل وتكوين أسرة، ومثل هذه الاحتياجات قد ارتفعت أسعارها من جراء الضرائب الجديدة؟

ربما علينا أن نفتح ملف تأثير إلغاء الحد الأدنى للأجور المرتبط بالشهادات، على جيل كامل في مقاعد الجامعات والكليات وحتى مَن في الدبلوم العام، هل يشجعهم على الاستمرار وبحماس في الدراسة؟ فالحجية التي تقف وراءه -أي الإلغاء- لا تشكل مدخلا لهذا النوع من الحياة التي تستهدفها خطة التنمية الخمسية العاشرة، وتتعارض معها خطة التوازن المالي والقرارات الحكومية التي تساقطت بصورة متتابعة على المجتمع باللاوعي بالمآلات، أو التقليل منها، وإلا تبرير قرار وزارة العمل إلغاء الاعتداد بالشهادات، لدواعي رفع نسبة التعمين في القطاع الخاص، لن يتناغم مع هدف خطة التنمية الجديدة "زيادة الرفاه الاجتماعي"، ولا رهان رؤية "عمان 2040" على الجيل المتعلم.

بل بالعكس.. معظم القرارات المالية، وبعض التشريعات الجديدة الصادرة حتى الآن، ترجع الأوضاع الاجتماعية إلى الوراء كثيرا، بدليل وجود 90 ألف عامل عماني في القطاعين العام والخاص يتقاضون أجرا أقل من 400 ريال، وأكثر من 57 ألفا يتقاضون أقل من 500 ريال، وقرابة 47  ألفا يحصلون على أقل من 600 ريال...إلخ، فهل هذه المستويات من الأجور تحقق الرفاه الاجتماعي حتى نتحدث عن زيادته عبر الخطة الخمسية الجديدة؟ وهل نتوقع عودته -وليس زيادته- خلال سنوات الخطة الخمسية العاشرة في ظل خطة التوازن المالي المؤلمة اجتماعيا؟

كان يستوجب عدم التلويح بهذا الهدف المهم الآن على الأقل؛ لأنَّ تحقيقه يصطدم مع توجهات خطة التوازن المالي ومع القرارات الحكومية بالتقاعد الإلزامي والضرائب والرسوم ورفع الدعم...إلخ، وهذه السياسات قد أثرت بدورها على رواتب الآلاف من الموظفين، ومثلهم من المتقاعدين، وكذلك المسرَّحين. فعلى أي أسس موضوعية يُمكن زيادة الرفاه الاجتماعي خلال سنوات الخطة الاقتصادية؟ وهنا يستوجب القول صراحة: إن نظام الرفاه الاجتماعي الذي تأسس منذ عدة عقود، وتستفيد منه الطبقة المتوسطة، يتفكك الآن بفعل تلكم القرارات والسياسات.. والسبب وراء ذلك، ليس سياسيا، وإنما ماليا، وهنا الاستغراب.. فلماذا؟ ومتى ستتدخَّل السياسة في الوقت المناسب؟ وما إقامة صندوق الأمان الوظيفي، ومساهمة كل موظف فيه بريال واحد، إلا نموذج يُدلل على ما نطرحه في هذه السياقات.

 

إشكالية توفير الوظائف

وتتجلَّى هذه الإشكالية في وجود 65  ألف باحث عن عمل خلال المرحلة الراهنة، بينما تركز الخطة الخمسية العاشرة على توفير 27 ألف وظيفة سنويا، بما يساوي 135 ألف وظيفة خلال سنواتها الخمس. فهل هذه الخطة ستحل العدد التراكمي للباحثين، وتستجيب في الوقت نفسه للأعداد السنوية الجديدة؟ فسنويا يتخرج في الجامعات والكليات الذين لم يواصلوا الدراسة، ما يساوي ما تستهدفه الخطة الخمسية سنويا، وكان يفترض أن نقلص من حجم هذا العدد التراكمي أولا، لكي نهيئ الانطلاقة الصحيحة للخطة الخمسية العاشرة لاستيعاب المخرجات الجديدة.

لذلك؛ ستظلُّ قضية التراكمات تراوح مكانها، وتشغل مرحلتنا السياسية بإكراهات مرتفعة، حتى لو كان الإنتاج السنوي للوظائف مثاليا من حيث الوفاء بالعدد السنوي المستهدف، وهذا يدعو الحكومة سريعا إلى توفير فرص عمل لنصف ذلك العدد التراكمي أولا، كضرورة استثنائية عاجلة، وهذا لن يتأتى إلا بقرار سياسي، وهذه الخطوة مفقودة الآن، وندعو لها بإلحاح، وفق موضوعية التوظيف، وليس كردة فعل آنية وبعشوائية في التطبيق، كأنْ يكون من بين أهم مساراتها المؤسسات العسكرية والأمنية التي تتوافر لها سيولة مالية ضخمة نتيجة استثماراتها الخاصة، وكذلك الإحلال في الشركات الحكومية.

ولم يتَّضح حتى الآن، كيف سيتمكن اقتصادنا من توفير 27 ألف وظيفة سنويا ابتداء من العام الجاري 2021؟ وكلنا نعلم حالة الوضع الاقتصادي للبلاد في ظل استمرار أزمتيْ كورونا والنفط. من المؤكد أنَّ وزارة الاقتصاد لديها رؤيتها في إنتاج هذه الوظائف؛ إذ لا نتوقع أن تتعهَّد بشيء في عهدنا السياسي الجديد، ولا يتم الوفاء به، خاصة وأنَّ التعهدات لها آجال زمنية قصيرة ومتوسطة الأجل. فما هي طبيعة الوظائف الموعودة؟ الكل سيكون رقيبا على تنفيذ مثل هذه التعهدات، والدقة في الوفاء بالتعهدات ستكون من اختصاص مجلس الشورى الذين يعول عليه إحداث نقلة فارقة في أدواتهم الرقابية سواء بالطريقة الدستورية أو الموازية لها.

ولا بُد من الاعتراف بوجود تحديات كبرى ستواجه جهود حل قضية الباحثين عن عمل؛ لذلك نكرِّر مجموعة اقتراحاتنا السابقة المنشورة في مقالات سابقة؛ ومن بينها: التركيز فورا على قضية الإحلال والتعمين؛ فهناك 119 ألف وظيفة بمؤهلات جامعية يشغلها الوافدون، كما يتعيَّن وضع خطة ممنهجة لإحلال على الأقل نصف العدد خلال مدى زمني قصير بالتعاون والشراكة مع الشركات، وطوال هذه الفترة يكون العبء المالي على عاتق صندوق، اقترحناه سابقا، يشارك فيه الأثرياء والشركات الكبرى، كنوع من التضامن مع المجتمع وخاصة الشباب.

 

الضرائب ورفع مجانية الخدمات.. سياسة دائمة أم مؤقتة؟

هذا المحور يشغل الرأي العام، ويتجاذبه الاختلاف، فهناك من يرى أن الضرائب والرسوم ورفع مجانية الخدمات الحكومية يهدف لمواجهة انخفاض أسعار النفط وكورونا، في ظل الفشل في سياسة تنويع مصادر الدخل الإنتاجية؛ أي يرى أنها مؤقتة، ستزول بزوال أسبابها. بينما يرى فريق آخر العكس أنَّ كل ما يحدث الآن هو ما سيصطبغ عليه مستقبلنا بصرف النظر عن بقاء الأزمات أو انتهائها، وكذلك وبصرف النظر عن نجاح التنويع الاقتصادي أم لا. ونحن نميل للرأي الأخير، فخلفيتي المعرفية تذهب باتجاه التحول من دولة الاعتماد على النفط والغاز إلى دولة الضرائب والرسوم والقطاعات الإنتاجية؛ لذلك ستظل منظومة الضرائب والرسوم والخدمات مدفوعة الأجر قائمة حتى لو نجحت الخطة الخمسية في سياسة التنويع الاقتصادي.

وهذا يدعو للاستغراب؛ حيث يفترض أن يخفف الأعباء الضريبية وعودة دور الدولة الاجتماعي بثوب جديد لمراعاة البعد الاجتماعي للدولة، كلما نجحت الحكومة في تنويع مصادر الدخل؛ حيث إنَّ الخطة الخمسية تستهدف نموًّا سنويًّا يقارب 2.3% في الناتج المحلي للأنشطة غير النفطية؛ من خلال التركيز على الصناعات التحويلية والزراعة والثروة السمكية والاستزراع السمكي والتصنيع الزراعي والغذائي والنقل والتخزين واللوجستيات.

أتدرُون ماذا يعني هذا واقعيا إذا ما صحت رؤيتنا؟ يعني صناعة قوة الدولة المالية، وتحييد النفط والغاز منها، أو تقليل الاعتماد عليهما تدريجيًّا.. بدليل، تحقيق فائض مالي متوقع في نهاية 2025. لكن هذا سيكُون على حساب قوة المجتمع، وهذا يَعني في المقابل، إضعاف قوة الدولة الاجتماعية مقابل صناعة قوة الدولة المالية.. ولنا تكملة حول هذا الموضوع في مقالنا المقبل.