تقييم التعليم

 

د. صالح الفهدي

كل مشروع منجز لا بد له من تقييم متواصل، من أجل تطويره، ومعالجة ما شابه من عثرات، من أجل ديمومته، وتحفيز استمراريته بحيوية وفاعلية، وتحسين جودته، فكيف بمشروع التعليم وهو لب الحياة الإنسانية، وأساس التطور الحضاري، وقاعدة النمو الإنساني؟! يعرِّف العالم النفساني والتربوي النيوزلندي C.E. Beeby (1977) تقييم التعليم بأنه: "جمع وتفسير منهجي للأدلة التي تقود كجزء من العملية إلى حكم ذي قيمة بهدف العمل".

وإذا كانت الإنسانية تشهد تطورات هائلة في مجالات مختلفة أبرزها اليوم ما يسمى بـ"الذكاء الإصطناعي Artificial intelligence "، كما أنها تشهد تهديداً مختلفة في مجالات مختلفة أيضا: الصحية، والاقتصادية، والبيئية، والتقنية...وغيرها، فإن التعليم قد أصبح بحاجة إلى تقييم عام، له صفة الجدية، والفاعلية، والدقة، والجرأة، والشجاعة، والرؤية؛ بحيث لا يترك التقييم جانباً من الجوانب إلا ويطرقه، ولا جزءاً دقيقاً إلا ويتناوله: حواراً، ونقاشاً، وتمحيصاً.

لا يمكن للتعليم عندنا -بعد مضي خمسين عاماً- أن لا يخضع للتقييم من خلال نوعية مخرجاته، وأثره على شخصيات المتعلمين وفكرهم، ووعيهم، خاصة ونحن على أعتاب رؤية مستقبلية جديدة. التعليم لدينا يعاني من إشكالات جمة نطالعها في مخرجاته، وسمات شخصياتهم، وطرق تفكيرهم، وقيمهم، وتوجهاتهم، كما نجني عصارتها منهم ومن أجيال مختلفة حول مراحل التعليم المختلفة، وما تتفاوت به الأجيال عن بعضها البعض.

يشهد العالم متغيرات هائلة، ومتسارعة في حين أن التعليم لدينا لا يواكب هذه المتغيرات بصورة متلاحقة، وسريعة، بل إنه قلما يلاحظ تغيره، فهو قائم في معظمه على الحشو السلبي للمعلومة، وأقول السلبي لأنها لا تكاد تنفع المتعلم في واقع حياته، ففي كل مادة من المواد كم هائل من المحفوظات التي لا تجدي نفعاً، في حين أن العقل الحر المبدع لا يكاد يجد مساحةً للتفكير، والإبداع، والانطلاق في آفاق رحبةً من التأمل والإبتكار، والقيام بدور فاعل في الحياة الواقعية.

هل يمكن أن يستمر التعليم على ما فيه من علات كثيرة نحو المستقبل؟ أقول علات وهذه أخف مما أسماه الأب الروحي للتعليم الفلندي الدكتور "باسي سالبرغ" حين أسماها بـ"جراثيم التعليم"..!! ومن ذلك المواد المعقدة، والواجبات المدرسية، والمحفوظات، والدروس الخصوصية، وغيرها التي تحدثت عنها في مقالي "خلصونا من جراثيم التعليم".  

علينا واجب كبير نحو التعليم، ونحن في مستهل عهد جديد، وبداية رؤية مستقبلية جديدة من أجل تقييم التعليم، والتخلص من شوائبه، والتخفف من أحماله، وتخليصه مما علق به مما لا ينفع دارساً، ولا ينمِّي وعياً، يقول الدكتور محمد رضا: "التقييم حقيقة علمية، وتخصص يدرس في الجامعات، وهو نهاية ملف باستنتاجاته، ونقطة بداية لملف جديد بمرتكزاته ..يبقى القول الفصل مركزاً على: المنهجية العلمية للتقييم، والجهاز أو الجهات التي ستقوم بعملية التقييم.. إنَّ الإشكالية التي تواجه التقييم في كثير من الأحيان في محيطنا ينطبق عليها قول الشاعر: "فيك الخصام وأنت الخصم والحكم"، هذا الكلام له منطلقاته الواقعية، فالتقييم لا يمكن أن يتم من خلال الوزارة المعنية وحدها، إذ لا يمكن لها أن تنتقد مناهجها، أو تنظر باستقلالية عقلانية وحياد عاطفي نحو ما يتوجب عمله في عملية التقييم، إنما يجب أن تقوم به جهات أخرى يكون للجهة المعنية بالتعليم دور ما فيها.

لم يعد التعليم اليوم هو ذلك الحشو المبالغ فيها، أو الكم الهائل من المعلومات غير المجدية، أو المواد التي لا تجدي نفعاً في بناء الشخصية الإنسانية؛ فالكثيرون بنوا أنفسهم لا عن طريق هذا التعليم وإنما بواسطة إنماء مطالعاتهم الشخصية، وإثراء وعيهم الذاتي، واكتساب مهارات مختلفة، والسعي إلى صقل مهاراتهم الإبداعية فالتعليم كما يقول الروائي باولو كويلو هو أن تظهر للآخر ما هو قادر عليه ، والتعلم هو جعل هذا ممكناً.

إنَّنا حين نقابل فتىً يافعاً وصل عمره الثامنة عشرة بعد أن قضى إثنا عشر عاما في المدارس لا يستطيع أن يكتب رسالة، ولا أن يجيد قول عبارة، ولا أن يحسن قراءة، ولا أن يمتلك من القيم الأخلاقية التي تبني شخصيته، ولا أن يتصرف تصرف المتعلم الحذق، ولا أن يحسن اتخاذ القرار، ولا أن يختار التوجه الأمثل لمستقبل؛ فإننا نتساءل عن جدوى التعليم لهذا الفتى وغيره ممن أضاعوا أعمارهم بين جدران الفصول المدرسية..! لماذا لم يتسلح هذا بكل ما ذكرناه في هذه السنوات؟ من هنا يحتاج التعليم إلى تقييم.

وإنَّنا حين نجد فتىً لا يطيق التعليم ويتململ في جلوسه على كرسي الدراسة، ويشقى بالدروس، والواجبات، ويعشق العمل اليدوي، والحراك والسعي الدؤوب فإننا نتساءل: ما الذي يفعله هذا في المدرسة بينما كان الأفضل له أن يوجه إلى حقل أو مصنع أو ورشة أو حرفة؟ من هنا يحتاج التعليم إلى تقييم.

وإننا حين نجد فتى لا يعرف كيف يفكر، ولا كيف يستنتج، ولا كيف يحل المشكلات، ولا كيف يتواصل مع الآخرين، ولا يعرف أسس الأعمال، ولا يعرف كيفية اتخاذ القرارات، فإننا نتساءل: ماذا تعلم إذن هذا لمستقبله؟ من هنا يحتاج التعليم إلى تقييم.

تقييم التعليم حاجة ماسة لا يمكن غض الطرف عنها إن أردنا أن نواجه المستقبل بتحدياته، ومتغيراته، ولا يمكننا أن نسير هكذا بنمط تعليمي قديم، ثقيل ينطبق عليه تساؤل المتنبي: مال الجمال مشيئها وئيدا // أجندلًا يحملن أم حديدًا؟