د. صالح الفهدي
يصبحُ المجتمعُ ضحيَّةً ما إن تقع حادثة فردية، نادرة في المجتمع، إذ ينبري البعضُ مسلّطاً سِهامهُ عليه، متَّهماً إيَّاه بما يشاء من الصفات القبيحة دون دليلٍ ولا برهان، بيدَ أننا إذا تمعنَّا سنجدُ أن هؤلاءِ الذين يتسابقون لاتهام المجتمع ينقسمون إلى فئتين؛ فئةٌ لا تعنيها الحادثةُ أصلاً، وإنَّما تراها فرصةً سانحةً لتعبِّر هي عن امتعاضها من المجتمع لأنَّ عاداته، وثقافته، وقيمه لا تسمح لها بالتعبيرِ عن حالاتها الخاصَّة، ولا تستطيع التعبيرَ عنها جهاراً، وإنما تستغل هذه الحادثة لتهاجم المجتمع لتنفِّس عن احتقانها وتوسِّع مساحات القدح في المجتمع لتوجد لها مساحةً أفضل للتعبير عن حالاتها..! وفئةٌ ساذجةٌ تتبعُ القطيع في اتهاماته للمجتمع، لا تعلمُ أين تُقاد، وإنما تنجرُّ طواعيةً إلى حيث يتجه الرأي الذي يسبقها، أو أغلبية الآراء التي تُحشد من أجلِ تكوين "الترند" وهو أشبه بالاتجاه العام للرأي نحو قضيةٍ من القضايا.
وحادثةُ انتحار فتاةٍ جامعيةٍ كان لها وقعها المؤلم على كثيرين لأنها حالةٌ شاذَّة في مجتمعٍ مُسلم، متسامح إلى الحدِّ الذي لا يفرِّطُ فيه بمعتقداته الراسخةٍ، أو التضحيةِ بقيمه التي تربَّى عليها، وأعني بها القيم الأصيلة التي عُرفَ بها المجتمع العماني من نحو قيم السلامِ، والاحترام، والرحمة، والتعقُّلِ، والتقدير سواءً بين مكوِّناته أو بينه والمتعايشين معه من ثقافاتٍ وأجناسٍ أخرى.
إنَّ المسارعة إلى اتهام المجتمع لوقوعِ حادثةٍ فردية لا تشكِّل ظاهرةً شائعةً في المجتمع ليس بالأمر الذي يمكن غض النظر عنه، لأنَّ آثارهُ عميقة، وذلك لأنه يرسِّخُ التُّهم في مجتمعٍ بريءٍ منها، حتى تصدقَ عليه بمرور الوقت، حين يصدِّقها الجاهلُ، وتابعُ القطيع، والمتغطرس، وتصبحُ عند أفراد المجتمع صفةً من الصفات اللاصقة وإن كانت تهمةً مُغرضةً تجعله مستسلماً لها في رضوخٍ وطواعية!.
ولقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من مغبَّة اتهام المجتمع وبيَّن الأثر الوخيم لذلك في قولهِ الشَّريف: "إذا قال الرجل هلك النَّاس فهو أهلكهم"(رواه مُسلم)، وهذا كلامٌ عميقٌ على قلَّةِ كلماتهِ إلاَّ أنه يحملُ رسالةً قيِّمةً إلى أولئك الذين يتسابقون إلى قذف المجتمع، وإلى إلقاء التُّهمِ عليه جُزافاً، دون درايةٍ منهم، لكن الأمر الشنيع هو تبنِّي بعض المختصِّين الحاصلين على شهادات عُليا اتهام المجتمع وكان من المفترضِ من هؤلاءِ أن يكونوا أكثر رجاحةً في التبصُّر بالأمور، وهم الذين يشخصُّون العلل النفسية الدقيقة.
يفسِّر الْخَطَّابِيُّ معنى الحديث الشريف البليغ بقوله: مَعْنَاهُ لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مَسَاوِيَهُمْ وَيَقُولُ فَسَدَ النَّاسُ وَهَلَكُوا وَنَحْوَ ذَلِكَ، فإذا فعل ذَلِكَ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ أَيْ أَسْوَأُ حَالًا مِنْهُمْ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْإِثْمِ فِي عَيْبِهِمْ وَالْوَقِيعَةِ فِيهِمْ، وَرُبَّمَا أَدَّاهُ ذَلِكَ إِلَى الْعُجْبِ بِنَفْسِهِ وَرُؤْيَتِهِ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُمْ.
لقد أصبح من السهل للبعض إلقاء التهمة على المجتمع وكأنَّ المجتمع فردٌ واحدٌ وليس مجموعةٌ كبيرةٌ جداً من الأفراد وهم متفاوتون في تصوراتهم، مختلفون في طبائعهم، متمايزون في أخلاقياتهم، متعددون في رؤاهم وأفكارهم، متباينون في خصائصهم، فكيف يسوَّغُ لأحدٍ أن يرمي المجتمع بتهمةٍ من التهم يعمِّمها على الجميع؟ إنه بهذا يتجنَّى على المجتمع إن هو وتابعيه واصلوا قدح المجتمع بما ليس فيه ليترسَّخ مع مرور الوقت فتصبح صفة العنف، أو الحقد، أو مصادرة الحريات أو عدم التسامح على سبيل المثال صفات لاصقةً في اسمه، راسخةً في سمعته، مقرونةً بذكره!
هذا ما كان من أمرِ النكت السخيفة التي تطلق على مجتمعاتٍ معينة حتى أيقن الناس أن المجتمع الفلاني فيه غباءٌ أو كسل نظراً لاستفحال وتأصُّل تلك الشائعات بينما تلك المجتمعات بريئة من تلك التهم بل هي على عكس ذلك؛ مجتمعات فاضلة، ذات نخوةٍ وكرامةٍ وشهامة لكن من يقف وراءها هم مغرضونَ يتقصَّدون الانتقاص منها، وتحقيرها، فانجرَّ رائهم السذَّج الجهلة!، على نقيضِ ذلك جمَّلت النكت التي تطلق على "المحششين" صورتهم في المجتمع فجعلتهم في صورة الشخصيات المرحة، قاصدة التخفيف من قبح الكلمة، وذلك خطرٌ على المجتمع لأنهم في الأصل تجار ومتعاطو مخدرات!
الوعي بهذه الأمور أمرٌ لازم، إذ لا يمكن أن يقادُ المرءُ قيداً دون أن يعي مقصده، ولا يمكن أن يتقوَّلَ قولاً لا يدري ما هي آثاره، فاتهام المجتمع أمرٌ خطيرٌ على الهوية الثقافية، ومهدِّدٌ لأمن المجتمع، لأنه يقوِّض القيم التي قام عليها المجتمع، ويرمي إلى إضعافها وقدحها حتى تتلاشى فتحل محلها صفات رديئة، دنيَّة لا تجسِّد هوية المجتمع على امتداد تاريخه العريق.
القضية عميقة لا تدركها إلا العقول الحكيمة التي تعي العواقب، وتدرك النتائج، لا يجب أن ينجرَّ ورائها كل من تلقَّفها دون وعي وإدراك.