اليوم صنيعة الأمس

 

غسان الشهابي

في كلِّ يوم تقريباً، تصلنا -عبر وسائل التواصل الاجتماعي- مواد مصورة وأخرى مكتوبة تمتدح إنسانية الإسرائيليين، وبطولاتهم، وكرمهم، وتسامحهم، وتعايشهم، وثقافتهم، والكثير من هذه الصفات التي يقولها قائلها، وأجفان العيون تثقل، ويتغير مكان سواد العين لفرط المحبة والتأثر في هذا القول. أما القائلون فهم بعض ممن يحملون جنسيات دول خليجية عقدت اتفاقات سلام مع الكيان الصهيوني، أو في طريقها لعقد مثل هذه الاتفاقات.

وجهة نظري الناقصة تقول إنه قد (أكرر: قد) تكون هناك أعذار للأنظمة التي تعقد اتفاقات سلام مع الكيان المحتل، لا لأنها مؤمنة بذلك، بل لأنَّ هناك ضغطاً كبيراً عليها من قبل "الراعي" الأمريكي الذي يلوح بالعصا والعصا فقط، يضغط ويحاصر ويهدد، وبعض الدول تريده أن يخلصها من الخطر الإقليمي، وهو لن يفعل ذلك ما دام هذا الخطر ما إن يسعل حتى تنفتح خروق جديدة في أكياس الموازنات الخليجية لتصب في صالح تشغيل مصانع الولايات المتحدة وتنشيط اقتصادها، كل هذا من الممكن تفهمه، أما قبوله فهذه مسألة أخرى... ولكن ما لا يمكن فهمه أو قبوله معاً هو هذا الذوبان في حب الصهاينة، والانفتاح الذي يشبه -لدى البعض- انفتاح أبواب بُوفيه فخم أمام مجموعة من الذين يعانون مجاعة عتيقة، فتراهم لا يعرفون من أين يبدأون، وأي الأطباق ألذّ من الأخرى.

واقعاً.. فإننا إنْ قرأنا خبراً عن التطبيع الرياضي، لفتنا آخر عن التوقيع على اتفاقية تعاون تجاري، أحدهم يفاخر بأن وصلته برتقالة من مزارع يافا، وأخذ يتغزل بلذتها بكل صفاقة، وآخر يمتدح بطولات الجيش الإسرائيلي، هذه تدَّعي أنها روائية وهي نكرة تشير إلى ما وجدته في بيت الرئيس الإسرائيلي من ترحاب، وذاك يضرب كوعه بكوع نظيره المحتل بعد التوصل إلى اتفاق في مجال سيادي، ويستمر الحال المقزز هذا وكأن هذه الفئة من البشر كانت على قلوبها أكنّة والآن -بعد الاتفاقات- صار "بصرها حديد"، وزالت الغشاوة عن أعينها، وتبين كمّ الحُسن والجمال والبراءة والتقدم لدى المجرمين، وانتقلت كل الصفات السيئة والخسيسة التي درجنا عليها في الصهاينة لتصبّ في جعبة الفلسطينيين... سبحانك اللهم مقلب القلوب!

إلا أن الثابت لديَّ أن التطبيع لم يأتِ هكذا فجأة، فهناك انتشار جديد ولذيذ لـ"الجامية"، وأين تجد السلطات أفضل ولا أحلى ولا أنعم من هذا التوجه؟! ولكن هناك -أيضاً- عمل مُضنٍ ودؤوب استمر عشرات السنوات، وزاد بشكل متواتر منذ اتفاق أوسلو الذي أتى بُعيد الانفتاحات الفضائية للمحطات التلفزيونية، وصار من السهولة الوصول إلى الناس بشكل متساوٍ وواسع، فنشط الإعلام المرئي على ترويج النموذج اليهودي، والمظلمة اليهودية، والهولوكوست، وغرس يهودي في أي عمل حتى لو كان لا يخدم النصّ ولا يؤثر فيه، يكون مرة مثار سخرية، ومرة في وضع المظلوم، ومرة يرد أن فلانا يهودي، فلا تجد توظيفاً لهذا القول في السياق، ويضع أحدهم باقة ورد على قبر جندي من جنود الحرب العالمية الثانية، وتلمح من بعيد وبشكل مدروس "نجمة داود" ضمن شواهد القبور...إلخ.

لقد "لعب" الإعلام الموجَّه والمسيطَر عليه من قبل اليهود دوراً خطيراً ومهماً وبالغ الذكاء في تدليك (مساج) جوهر الرفض العربي، خصوصاً في الأجيال الجديدة، لتفهّم اليهودي/الصهيوني لأنه واقع وليس من المنطق الإشاحة عنه، ثم تقبله، ثم... تقبيله.