الحقائق العارية

 

غسان الشهابي

قبل أيام من انطلاق أكبر تظاهرة صحافية سنوية، وهي المُؤتمر الذي تنظمه شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج)، مهّد المؤتمر بسلسلة واسعة جداً من الورش التدريبية، بعضها أساسي للصحافيين الذين ينالون حظاً من التدريب المجاني لأوَّل مرة في بعض الفنون، وبعضها متقدم.

كان من بين الورش اللافتة، ورشة "تدقيق الحقائق". والمتمعن في هذا المصطلح عليه أن يسرح بخياله في عدد المرات التي قرأ فيها أخباراً أو تحقيقات أو مواضيع صحافية امتلأت بالمعلومات الركيكة أو الخاطئة أو المُضللة، وكم مرّت على القارئ صور لا تتبع الأخبار، أرقام يعرف يقيناً أنها ليست دقيقة أو حديثة، أو ربما ليست صحيحة، وكم من التعبيرات التي مررنا بها في صحافتنا العربية – على وجه العموم – وهي لا تسمي الأشياء بمسمياتها، وتأخذ الأمور على عواهنها من دون التأكد منها.

إذا كانت الصحافة هي نتاج غربي بحت، فالتطورات التي لحقتها هي كذلك نتاج هذه "الصناعة"، فليس من المستغرب أن القارئ عندما ترتفع درجة تعليمه، ويسمو فكره، وتتعمق ثقافته سوف يهجر صحافة لا تحترم ما وصل إليه القارئ. والقارئ الغربي – بشكل عام – لا يتوانى عن كتابة الرسائل – حتى أيام الكتابة بالقلم والإرسال بالبريد الاعتيادي – لتصحيح معلومة، أو الإعراب عن الاستياء لأن الصحيفة قللت من شأنه، أو استهانت بذكائه عندما عرضت موضوعاً ما بخفة ومن دون التحقق مما كتبه القارئ، الذي ربما انساق وراء عواطفه، أو أنَّه مدفوع بأيديولوجيته، أو أن أحداً ما دفع له لكي يروج أفكاراً ما تخالف الحقائق. ربما من هنا، ورغبة في الصحافة أن تبقى صناعة معتبرة ومحترمة لدى القراء، وأن تكون مصدراً للمعلومات؛ قررت أن تدقق في كل خبر أو مقال أو تحقيق، أو تقرير ينشر فيها، لتحاول أن تصل إلى درجة الصفر في الأخطاء.

لذلك، فإنه من المبهر بالنسبة لصحفنا العربية أن توظف كبريات الصحف في العالم عشرات (أكرر: عشرات) ممن يسمَّون "مدققي الحقائق" وهم الذين يفلّون الموضوع سطراً سطراً، كلمة كلمة، رقماً رقماً، يتأكدون ويتساءلون عن صحة كل معلومة واردة، يدققون في التفاصيل بشكل قد يصيب الصحافي بالإنهاك وهم يجادلونه في إثبات كل ما يكتبه حتى لا يلقي الكلام على عواهنه.

وفي هذا الزمن الذي تتزاحم فيه المعلومات والمواقع المفتوحة بالأكتاف لكثرتها وإمكانية التحقق من صحة المعلومات بشكل مُيسر؛ فإنَّ بعض المؤسسات تشغل مدققي الحقائق ليتأكدوا بأنفسهم بأن ما توصل إليه الصحافي صحيحاً ودقيقاً ويستأهل أن "ينال شرف" نشره على صفحات الصحيفة. ومع كل هذا التدقيق، ولأنه جهد بشري، تقع هذه الصحف أحياناً في مزالق التضليل أو الإهمال، ويجوز عليها الخطأ، وعندها تكون هذه الهفوات علامات فارقة في تاريخ الصحيفة يجري تذكرها، وربما تدريسها في كليات الإعلام، بينما تقع في صحفنا العربية "البلاوي" ولا يلتفت إليها أحد، بل ولا يكلف الكثير من الناس أنفسهم عناء التعليق والتصحيح إلا إن مسّهم الخطأ، وما عدا ذلك فلا يهم.

لا عجب أن تصل الصحافة الغربية، وفي أجزاء أخرى من العالم إلى درجة عالية من المهنية، وتنال الاحترام والتقدير العالميين، ويقف الصحافي في أيٍّ منها ممشوق القامة مرفوع الرأس لأنه ينتمي إلى هذا الكيان الذي يغذي الرأي العام بل ويصنعه، لذا يستشعر كل من يعملون في هذا القطاع بالأهمية الكبرى لما يفعلون، والمسؤولية الكبرى التي يحملون، ومن هنا يأتون إلى التدقيق حتى يضيقوا الخناق على الأهواء والكسل والإهمال والتسلل من بعيد لذوي الأغراض الخبيثة.

صحافتنا العربية التي يلوّح أكثرها توديعاً للقارئ تاركة مكانها لما يُسمى بـ "صحافة المواطن"، معظمها ضعيف البنيان الاقتصادي، لا تزال تناقش توظيف صحافي من عدمه، وفي أكثر الصحف لا يوجد محررون، فما بالنا بمدققي الحقائق؟! فلا نحمّلها ما لا طاقة لها به.