الحماران وعهد السلام الأمريكي

خالد بن الصافي الحريبي

في الكثير من بلاد الدنيا وبقاع الأرض قصص شتى تروى كوقائع وأحياناً أساطير عن أسباب بزوغ وزوال المجتمعات والأمم. ومن سنة الله في الأرض أن الحضارات تشبهنا تولد فتشب وتكبر ثم تشيخ، إلى أن يقيض الله لها من يُوقد روحها لهبا ويبعث جسدها لتولد حضارتها من جديد. وكذلك يرى المؤرخون وأهمهم ابن خلدون أن "عمران" حضارات العالم يعتمد قدرتها استدامة بعث الروح فيها من جديد "فالدولة لها أعمار طبيعية كما الأشخاص". وكل من يتابع هذه الفترة الانتقالية الحرجة لغاية تسلم الرئيس الأمريكي المنتخب الـ٤٦ منصبه في العشرين من يناير المُقبل يتساءل: هل يقترب العمر الطبيعي للدولة الأمريكية من أجل يتحتم أم بعث يتجدد؟ وأهمية هذا التساؤل تأتي ونحن والعالم يرقب عملية استلام وتسليم إلى قيادة إدارة أمريكية مُحنكة في خضم تنازع داخلي بين جناح ديمقراطي، شعاره الحمار، تقدمي مثالي ومندفع وقليل الخبرة، وجناح جمهوري، شعاره الفيل، مُحافظ وشعبوي ومتطرف أكثر مالاً وأعز نفرًا. وما أشبه اليوم بالبارحة حيث إن للقب الحمار قصة في تاريخ العالم تذكرنا بالأفول وتداول الأيام بين الناس.

لنتعرف على الإجابات والسيناريوهات المحتملة قد يكون من المفيد التأمل في أسباب بزوغ وزوال القرون التي سبقتنا، وعلاقتها بتحديات الإدارة الأمريكية المتجددة، وما هي العبر المفيدة لنا من هذا التدافع بين الأمم.

 

مقارنة بين عهود السلام العالمية الستة

 

يخبرنا المؤرخون أن عالمنا مرَّ بستة عهود سلام خلال حوالي ثلاثة آلاف عام خلت تدافعت فيها الأمم وغلب على أمرها إمبراطورية في كل عهد بسطت سيطرتها العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية لقرون. ويرجع سبب تسمية العهود بهذا الاسم نظرا لقدرة هذه الإمبراطوريات على نشر سلام نسبي مدعوم بقوتها العسكرية.

 

ومنها على سبيل المثال عهد السلام الروماني الذي ترك للغرب وبقية العالم معالمه ونظام الحكم الديمقراطي، بعد أن أنهكه التوسع والأوبئة. كما أن عهد السلام الصيني الذي منح البشرية أساسيات التصنيع والطباعة وفكرة حق الحكم السماوي، قبل أن تنهيه التناحر والأوبئة. ولا ننسى العصر الذهبي للإسلام الذي بفضله طور المعرفة والعلوم وأوصلها لكل أرجاء العالم القديم، وانحسر بعد الغزوات المدمرة والاستعمار. أما عهد السلام المغولي فقد نجح، قبل أن ينقض عليه الطاعون الأسود، وتسبب سقوط بغداد في انتقال حاضرة الإسلام غرباً إلى القاهرة وأصبحت مصر قلب العالم الإسلامي والعربي، وفي ربط تجارة الشرق بالغرب في طريق الحرير وأعاد الحياة للثقافة الفارسية ومهد الأمر لقيام الدولة الفارسية التي تبنت المذهب الشيعي كمذهب رسمي لإيران لغاية يومنا هذا. وربما الأقرب لنا هو عهد السلام البريطاني الذي نشر الثقافة الإنجليزية وسياسة فرق تسد وأنهى رسمياً تجارة الاستعباد وخلف لنا سلاما باردا وحدودا مُلتهبه. إلى أن نفض العالم غبار الحرب العالمية الثانية التي أشهرت عصرنا الحالي السلام الأمريكي- الذي نجح نسبياً في الترويج لجامعاته كمنارات للتفوق المعرفي والتكنولوجي وروج للديمقراطية وحرية التعبير وتجارة الأسلحة والتكنولوجيا العسكرية والماكدونالدز. وعلى الرغم من تباين قصص بزوغ هذه الإمبراطوريات إلا أن قصص زوالها تتشابه. وتتلخص قصص زوال الإمبراطوريات في استشراء الأوبئة والتنازع الداخلي وظهور منافسين أقوياء وضعف التجارة. ويبدوا أنَّ الإدارة الأمريكية المقبلة وعهد السلام الحالي اجتمعت عليها هذه التحديات الجسام السياسية والأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية في وقت واحد.

 

بين حمارين- تحديات الإدارة الأمريكية

 

إنَّ الأمانة النبيلة التي يحملها الإنسان خليفة الله في الأرض أساسها الإيمان بالله والعمل الصالح والحكم بالعدل، بينما شهدنا من تصرفات إدارة الرئيس الأمريكي الـ٤٥ الإيمان بحق القوة بدل قوة الحق، والتنمر لجباية أرزاق الأمم ومواردها الطبيعية، والأعمال المتطرفة التي تزرع الفتن والشقاق داخليا وخارجيا، ومعها تشجيع قوى إقليمية ندعوها للسلام بينما هي تبدد مواردها المالية والتكنولوجية والعسكرية في التدخل السافر في شؤون بظلم وجاهلية في منطقتنا خصوصاً وفي العالم عموماً. وإذا كان الظلم ديدن الإمبراطوريات ووقودها فإنَّ الأوبئة هي كعب أخيلها الذي يصيبها في مقتل، مما يجعل مهمة بعث العهد الأمريكي من جديد في ظل إنشغالها بجائحة كوفيد-١٩ وتنازع داخلي مهمة شبه مستحيلة، إلا بحبل من الله وحبل من النَّاس المستضعفين. بل إن التحديات التي تواجه الرئيس الأمريكي المنتخب، والذي ينتمي للحزب الديمقراطي الذي شعاره الحمار، تشابه تلك التي واجهت آخر خلفاء بني أمية مروان الثاني ابن محمد الملقب بالحمار لصبره وقدرته على التحمل، فمروان الثاني واجه تركة ثقيلة حوالي ٢٠ حالة استشراء للطاعون و٢٧ حالة تنازع داخلي بسبب غياب عدالة ملوك الأمويين الاجتماعية والتي أخمدها بعد فوات الأوان، وفي هذا عبرة أن استخدام الحروب والقوة الخشنة أو المالية لا تكفي لمد عمر طبيعي لنظام حان أجله.

 

ماذا يعني هذا بالنسبة لنا؟

 

إنَّ منطقتنا تمر بظروف غير مسبوقة تدعونا لخوض غمارها بالحكمة والسياسة الحسنة، وقد توضحت هذه الرؤية في الخطاب السامي في الذكرى الخمسين لنهضتنا المتجددة، والذي أكد فيه سلطاننا هيثم بن طارق- حفظه الله ورعاه- على أنه "تمثل الأزمات والصعوبات والتحديات سانحة لأن تختبر الأمم جاهزيتها وتعزز قدراتها". وعليه فإن رسالتنا النبيلة كبشر تدعونا لنجهز ونعزز قدراتنا وألا نكون أسرى للضعف وتقليد الغالب، وأن نتبنى خارطة طريقنا الخاصة لعهد سلام إنساني متجدد مبني على: الاستثمار في أسباب العلم والمعرفة والابتكار المستدام الكفيل بالقضاء والحد من الأوبئة، والتعاون الاقتصادي اللامركزي والمحايد مع حواضر الأمم على مبادئ البر والتقوى من إسلام أباد إلى جاكرتا وكوالالمبور وسمرقند وطهران وإسطنبول ولاجوس والقاهرة وبغداد وتونس، وبناء على الحكم بالعدل والرحمة وسيادة القانون دون التمييز الذي يُهلك الأمم بين شريف وضعيف، ولله الأمر من قبل ومن بعد.