هلوسات رجل خمسيني

عبدالله الفارسي

"إننا نخرج من ظلمات الأرحام إلى ظلمات القبور، مارين بظلمات الحياة وحدنا دائما" - صمويل بيكيت

كنت أرغب في كتابة مقال عن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس المنتخب جو بايدن، ومسرحية الانتخابات الأمريكية وغباء وحماقات الدول العربية، لكنَّ أحدَ أعدائي الشرسين قال لي متهكما: أنت لا تتقن الكتابة عن السياسة، أنت لا تتقن شيئا سوى التفاهة!

لذلك؛ قررت كتابة بعض السطور عن التفاهة. فهناك خياران إما أن تكون حمارا، يأكل ويشرب وينهق، وإما أن تكون إنسانا يحترق وعيا، ويشتعل رفضا واحتجاجا. فهل الأوغاد الذين يجعلون من هذا العالم سخيفا وتافها هم نبت شيطاني، نبتوا دون بذور وبلا سُقيا؟ هل العالم تافه بالفطرة أم أن التفاهة صفة اكتسبها العالم بالعلم والبحث والتجربة؟

ربما لا يجوز أن نسأل لِمَ خلق الله الأوغاد؟!

منذ فترة قصيرة، وتحديدا منذ سنتين، دائما يُراودني السؤال الشائك والملغَّم: إلى أي عمر سأعيش؟ طبعا هو سُؤال غير جائز شرعًا لأنَّ الأعمار مكتوبة ومحددة في كشوفات سماوية وغير موثقة في كشوفات بنك مسقط أو بنك ظفار أو بنك إتش.إس.بي.سي، هنا أذكر البنوك وأربطها بالقضية للعلاقة الوثيقة جدا بين المال وطول العمر، والتي يعرفها الاقتصاديون ويفهمها الأثرياء والمترفون أكثر من الفقراء والبائسين.

أعود إلى سؤالي: وصلت إلى شبه قناعة بأنني سأتجاوز السبعين بقليل، وهناك احتمال أن أصل إلى الثمانين ولا أتخطاها سنتمترا واحدا، رغم خوفي وفزعي من الوصول إلى الثمانين، يا إلهي ثمانين عاما في هذا المستنقع، يا لها من معاناة، يا له من شقاء!! لكنَّ النقطة البهيجة في الموضوع أنني لن أصل إلى الثمانين لأن أبي لم يصل إليها، وأمي لم تصل حتى إلى الستين، وهذا مؤشر وراثي جيد على أنني ربما سأحذو حذو عائلتي في قضية معدل العمر؛ لذا كل أمنياتي وأكبرها ألا أتجاوز عمر أبي، ولا بأس لو تجاوزت عمر أمي بسنة أو سنتين أو ثلاث، لا مانع لدي.

لكنَّ مُؤشراتي الطبية تقول إنني قد أعيش حتى الثمانين، فأنا مهتم بصحتي إلى حدٍّ كبير، أمارس رياضة خفيفة لكنها دائمة، نادرًا ما أتناول طعاما صحيا وغالبا أتناول طعاما غير صحي ولكن باعتدال، القاعدة هي الاعتدال في كل شيء حتى في الأخطاء والانحرافات، وبالنسبة للجنس فأمارسه بتقشف شديد، ربما بسبب الملل والقرف وربما لأنني أشعر بأنني تقدمت في السن. وقد نصحني أحدهم بالزواج وتجديد وتنشيط الغريزة الجنسية للتخلص من مشاعر التفاهة العظيمة التي تقتحمني، لكنَّ الزواج له ثمن باهظ وفاتورة مرتفعة. أحيانا أشتعل جنسيا ولا أجد أمامي سوى كتاب فأضاجعه بوحشية ونهم! حاليا ليس لدي أي خطط مستقبلية بخصوص هذا الأمر، رغم هذا العهر العظيم الذي تبثه إلينا التقنية اللعينة الحديثة، والتي حولت العالم إلى ماخور هائل يتسابق سكانه في العهر ويتبارى أسياده في إشعال الغرائز وتأجيج الإغراء وإثارة هرمومات الإغواء وكل الغاية هو محق الفضائل وإعدامها.

حين أتأمل هذا العالم العاهر أُصاب بالتقيؤ؛ فقد أصبح العالم مهووسا بالجنس لدرجة الغثاثة، أصبح الجمال لأجل الجنس والجنس لأجل الجمال إنها الشراكة المنحطة بين رذيلتين، إنهما العلامة التجارية الأبرز في كل الشاشات.. والجنس هو شهادة التفوق وهو بطاقة النجاح وفرصة الثراء ومفتاح الرفاهية.

إنها تفاهة وغثاثة كونية لا يمكن تخيلها. أعتقد أن الجنس هو الجانب الحيواني الصريح في الإنسان، إنه الفعل الذي يؤكد حيوانية الإنسان وبهيميته المحضة، لكنه يظل ضرورة بيولوجية مسلية لاستمرار تناسل وتكاثر السلالة البشرية التعيسة.

وفي نفس الوقت يشكل الجنس مطلبا سيكولوجيا ملحا ولا بد منه حتى إن كثيرا من الأطباء يؤكدون أن الجنس في سن متأخرة يعتبر مصدرا من مصادر الصحة النفسية، خاصة في المجتمعات الميتة، وينصح بممارسته بكثرة، لكنني أختلف معهم فلسفيا وأتفق معهم طبيا وبيولوجيا!

القضية العويصة في طول العمر هي: لماذا تعيش ثمانين عاما؟ وكيف تواصل الحياة حتى الثمانين بشيء من الثبات والاستقرار والإيمان والتناغم مع من حولك؟ كيف تعيش عمرك الطويل الكئيب الممل كاملا دون إصابات أو ردود أفعال عنيفة على مناظر مخزية ومواقف سخيفة؟

هنا.. تكمن خطورة الحياة أو بمعنى أصح خطورة طول العمر. لقد مضت الخمسين عاما الماضية بسلام ودون مشاكل، لم أرتكب جريمة، لم أغتصب، لم أسرق وطني، ولم أنهب خزنة أحد اللصوص، ولم أعتدِ على فتاة جميلة في زقاق أو سكة أو شارع ضيق، وطوال عمري أغض بصري حين اصطدم بالنساء الجميلات في السكيك والحارات، حتى خادمة جاري الإندونيسية الفاتنة كنت أبعد بصري حين تعبر من أمامي، وأبتعد متأبطا الأدب متظاهرا بالعفة.

عشت محترما للغاية متحكما في زمام جهازي العصبي بشكل غير طبيعي. لدرجة أنني لم أضرب سفيها ولم أبصق في وجه وغد طوال خمسين عاما.

الحمدلله.. لقد مرت الخمسين عاما بدون أضرار جسمانية أو انتكسات أخلاقية، وهذا فضل من الله، لكن أشعر حاليا أنني فقدت نصف عقلي الزمني، ونصف عمري العقلي مشلولا، وأحتفظ حاليا بنصف عقلي الاجتماعي، لكنه يكفيني لعبور الجزء المتبقي من الجسر، والأيام الباقية من العمر. غالبا لا تحتاج إلى عقل كامل في المجتمعات العربية، يستحسن أن تكون بنصف أو بربع عقل، إنه يكفي جدا.

العقل مصيبة عظيمة في المجتمعات المتخلفة؛ لذا السعداء معنا هم الحمقى وأصحاب أرباع العقول، ولذلك تجد هولاء هم أكثر الناس ثقة بأنفسهم ويتبجحون بكوارثهم التي يصنعونها بكل فخر واعتزاز!!

لذا؛ أنا مؤمن تماما بأن أوطاننا العربية هذه لن تتطور أبدا ولن تتقدم أبدا، وستعيش في انتكاسات متكررة وسقطات دائمة حتى قيام الساعة!!

أما عن حالتي العاطفية، فهي ليست بتلك الهمة والانتشاء، إنها مهلهلة مخلخلة، ولكني أحقنها بالمشاعر الكاذبة والأوهام الزائفة لتصمد في وجه أعاصير المجتمع وخياناته. لكن كما سطرت لكم في مقال سابق أنه حين تتجاوز الخمسين عاما من عمرك في مجتمع كهذا، وتحتفظ بنصف عقلك فهذا يعتبر في حد ذاته إنجازا عظيما ونجاحا باهرا، النصف الأول من العمر هو الأصعب، هو الأتعب، هو الأعنف، إنها رحلة السجون العديدة.

تبدأ بسجن العمل، ثم سجن الزواج، ثم سجن الأبناء والتربية وبناء مسكن، وينتهي بملاحقة ديونك البنكية واللهث خلف الأبناء بعد تخرجهم من الجامعة، والبحث لهم عن عمل أو وظيفة والاتصال بكل الأصدقاء الأوغاد الذين عرفتهم في حياتك لمساعدتك في توفير وظيفة حقيرة لأحد أبنائك.. إنها مهام شاقة مؤلمة شبيهة بمناورات عسكرية في صحراء مخيفة مليئة بالأفاعي والعقارب يمارسها الإنسان في النصف الأول الجميل من عمره، فيتحول إلى نصف عمر مهلهل ومتشظٍ، ومكسور ومتشرذم.

أعان الله الشباب العشريني، خاصة الفقراء منهم، والذين لا يملك آباؤهم كشوفات ذهبية في بنوكنا العظيمة، لهذا سيكون النصف الأجمل من عمرهم قبيحا ومرهقا إلى حد مؤلم، والنصف الآخر حتما سيكون مفجعا، فالنصف الثاني من العمر يعتمد اعتمادا كبيرا على النصف الأول منه، لذا أشفق عليهم شفقة عظيمة!

أعود إلى هلوساتي.. إذن، وحسب حساباتي التقريبية، بقى لي أقل من ثلاثين عاما، بصراحة أحسبها يوميا، أريدها أن تنقضي بسرعة لأن من وجهة نظري الفلسفية ليس هناك شيء يستحق أن تعيش لأجله ثمانين عاما،

لم أصادف شيئا صحيحا طوال الخمسين عاما الماضية.

لم أرَ سوى كميات هائلة من التفاهات والسخافات العجيبة والاعوجاجات والقبائح المريرة والتي كانت كفيلة بأن تقنعني بأن الحياة ليست سوى صندوق هائل من التفاهات، إنها خيمة هائلة من المضايقات والمرارات والأكاذيب والضلالات.

هناك أشياء بسيطة جميلة في هذه الحلقة المفرغة مررت عليها واصطدمت بها، لكنها لا تقارن أبدا بمعدل القبح وبدرجة السخافات التي عشتها وعايشتها وسأعيشها في قادم الأيام؛ فالتفاهات في تطور كبير ونمو مضطرد وارتفاع عظيم.

والمصيبة الأخرى ليست في التفاهات التي نعيشها، بل في الشعور بوخزة التفاهة ذاتها، إنَّ الشعور بتفاهة الحياة قد يضرني كثيرا، وسيرفدني بمزيد من الوقت الإضافي المزعج. فكل الفلاسفة التشاؤميين عاشوا عمرا مديدا أكثر من أقرانهم التفاؤليين.

المتشائم أطول عمرا من المتفائل؛ للأسف هذه حقيقة نفسية صادمة؛ لأن التشاؤم يمنحك كثيرًا من الفرص للعن الحياة والبصق عليها وتفريغ مكبوتاتك السوداء والصفراء في وجهها، وهذا السلوك يعد سلوكا صحيا جدا حسب أغلب منظمات الصحة النفسية العالمية، وهنا يكمُن الخطر، إنني أتسبب عن سبق إصرار وترصد بتطويل عمري، ورفع معدل القرف في داخلي.

لذلك دائما أدعو ربي: اللهم اكتب لي الخير في السنوات الباقية من عمري!!