عيدنا الذهبي.. ورسالة مسقط للعالم

 

د. عبدالله باحجاج

هو عيدُ العهدين، عهد مؤسس النهضة العُمانية، الراحل جلالة السُّلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- وعهد مُجدد هذه النهضة، جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه-، وهذه الاستمرارية تحمل الكثير من الرسائل المعاصرة، من أبرزها الوفاء للراحل، والثقة بالذات للمُجدد، وهذا يكسب السلطنة الصدق والمصداقية في عالم يتصارع على السلطة، ويعمل على الاستفراد بها، ويتنكر لمن سبقوه، ويصنع كل نظام سياسي جديد أمجاده من أوَّل يوم تسلمه السلطة، لذلك، فعيد اليوبيل الذهبي هو عيد العهدين.

عيد نتذكر فيه مرحلة ما قبل السبعين، وكيف نقل المؤسس الراحل الدولة والمجتمع إلى الانصهار في وحدتين مُتناغمتين رغم تعددهما وتنوعهما "ترابية ووطنية" بعد ما كانتا تعانيان من تشطيرات وتمزقات ومهددات ليس للدولة العمانية فحسب، بل ولدول المنطقة كلها، وهو كذلك عيد، نتطلع فيه بآمال كبيرة وعريضة للمُستقبل من خلال تجديد نهضة المؤسس، وهذا يحظى بالإجماع العماني، لأننا في مجتمع محافظ، ودولة مُسالمة، وهذه الديمومة تصلح لدولة مثل سلطنة عُمان.

ولا يمكن فهم الرابط أو الارتباط بين العهدين، إلا إذا عرفنا كيف تمَّ انتقال السلطة من الراحل المغفور له بمشيئة الله، إلى السلطان المجدد- حفظه الله ورعاه- فما حدث في يوم الحادي عشر من يناير 2020، سيُدرس في كليات العلوم السياسية كنموذج جديد من نماذج الانتقال السلمي والهادي للسلطة، بحيث إننا لو نظرنا إليه من منظورنا الحاضر، سنعتبره من بين الإرهاصات الأولية التي تقود مستقبل التحديث السياسي في البلاد.

لن ننسى كعمانيين، الطابع المؤسساتي والدستوري الذي انتقل به الحكم في يناير الماضي، وهو الذي ضمن هذا الانتقال الهادي والسلس في وقت كانت الضبابية تحجب الرؤية عن قوة وفعالية الضمانتين "الدستورية" والمتمثلة في النظام الأساسي للدولة الذي فيه مواد أساسية تحدد كيفية انتقال الحكم، و"المؤسساتية" والمتمثلة في مجلس الدفاع ومجلس عُمان بشقيه: الدولة المُعين، والشورى المنتخب. فهاتان الضمانتان من نتاج عهد التأسيس الذي استشرف المآلات، وعمل على ضمانتها مسبقاً، أي أنه لم يترك البلاد بعده للمجهول، وإنما وفق ضمانات قوية حاكمة للاستقرار السياسي وضامنة له.

من هنا، ليس غريباً أن يكون العيد الذهبي لعهد المؤسس هو عيد المُجدد، أي هو عيد العهدين، وقد لمسنا هذا التوجه الاستراتيجي منذ خطاب تنصيب زعيم التجديد، حيث أكد المضي قدماً على نهج الراحل في تطوير وتقدم السلطنة، كما أكد تمسكه بالحفاظ على عدم التدخل في شؤون الدول المجاورة، مشدداً على دفع مسيرة التعاون بين دول مجلس التعاون، وعلى صعيد السياسة الخارجية، أكد استمراره في دعم جامعة الدول العربية وتحقيق أهدافها، والنأي بهذه المنطقة عن الصراعات.

وما اعتبار العيد الذهبي، عيد العهدين، سوى تجسيدٌ لهذا الفكر السياسي الواقعي، وهو في صالح السلطنة عموماً، لأنه- أي الفكر- يجعل من السلطنة حالة مستدامة في ثوابتها ومواقفها ومصالحها مهما تعاقبت عليها العهود السياسية، ومن خلاله تحقق الصدقية والمصداقية في أقوالها وأفعالها، وتلزم الغير بالمبدأ الثابت، ولا يلزمها المتغير على المبدأ، مهما كانت الضغوطات الظرفية، وهذا ما تجسد في العهد الجديد، عندما قاوم ضغوطات التطبيع في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

ومن خلال هذا النهج، نجحت مسقط في الصمود على مواقفها، والاختراق في دبلوماسيتها منذ بواكير عهدها الجديد، فشهدناها تتدخل في الإفراج عن غربيين عالقين في اليمن، كمثال للجوانب الإنسانية، وينتظرها الآن أدوار سياسية مُتعاظمة لصالح دول المنطقة "أنظمة وشعوبا" فقد أثبتت بتمسكها بسياسة الحياد العمانية التي أسسها العاهل الراحل، والتزم بها العاهل المُجدد، أثبتت قوة رؤيتها السياسية، ونفاذ استشرافاتها لتقلبات السياسة الدولية، وخطأ الانصياعات الإقليمية لها، فهي لم تسارع أو تنحني للتطبيع رغم ضغوطات ترامب وإدارته الخاصة بملف التطبيع "كوشنر وفريدمان"  فلو فعلت، لفقدت الآن أهم قوتها الإقليمية بل والدولية.

واستمرار السياسة المحافظة، يجعل من العهد الجديد في السلطنة، منطقة جذب إضافية للاستثمارات الأجنبية الإقليمية والعالمية إذا ما عرف الفاعلون الجدد، كيف يمكن استغلالها وتوظيفها لصالح رؤية عمان 2040، خاصة وأن نجاح هذه الرؤية يعتمد على ما نسبته 80% من هذه الاستثمارات، وليس هناك مجال غير ذلك، فنجاح العهد السياسي الجديد في الحفاظ على الحياد له في المقابل الكثير من الإيجابيات الكبيرة للبلاد.

لعل أبرزها، جعل السلطنة في عهدها الجديد، كوسيط ناجح ومقبول من كل الفرقاء والمتخاصمين في المنطقة، حتى أولئك الذين وضعوا كل بيضهم في سلة ترامب، وراهنوا على ديمومته، وكأنه الثابت غير المتغير بصك إلهي، فأوقعوا أنفسهم الآن في كبرى الأخطاء الاستراتيجية عندما فاز بايدن بالانتخابات الرئاسية، وتظهر مسقط الآن بوابتهم لتصحيح مثل هذه الأخطاء في عهد الديمقراطيين، وهذا يظهر مجدداً أهمية الحياد الإيجابي العماني للمنطقة كلها رغم أنَّه كان مستهدفا من الأنظمة نفسها.

ولنا تصور، لو طبعت السلطنة تحت إكراهات ترامب القوية، ومساعي بعض دول المنطقة جعل مسقط مثلهم في قائمة المُطبعين، فهل سيكون هناك طرف إقليمي موثوق به لتجنب المنطقة الصراعات، والتدخل في الوقت المناسب للملمة الأوضاع المبعثرة؟ فالأزمة الإيرانية مع الغرب عامة وواشنطن خاصة، وإنهاء الحرب في اليمن، وحل الأزمة الخليجية الخليجية، وعودة تماسك وتعاون المنظومة الخليجية، وتقريب المواقف بين ثلاث دول خليجية وأمريكا في عهد الديمقراطيين.. إلخ كلها ملفات تنتظر الآن الدور العماني.

يتولد لدينا الشعور بعظمة الحياد العماني بعد خسارة ترامب وفور بايدن، واحتفاظ بلادنا بقوة حيادها، وهو المسيطر على لحظة تفكيرنا في كتابة مقال عن عيدنا الذهبي، وقد رأينا فيه- أي هذا المقال- الرسالة التي ينبغي أن تخرج من مسقط للعالم في عيدها الذهبي، لأنها رسالة سلام ومحبة وخير لكل أنظمة وشعوب دول المنطقة بل وللعالم أجمع، فالحياد العماني، هو المنتج للأمن، والمعزز للاستقرار وصانع السلام، ليس للسلطنة فحسب بل لكل دول العالم، وهذه حقيقة، ولا نبالغ فيها أبدًا، ونقولها بصوت مرتفع، ومنها نطرح التساؤل التالي:

لو كانت السلطنة بجغرافيتها الجيوسياسية والجيوإستراتيجية المميزة عالميًا، دولة غير محبة للسلم الداخلي والسلام الخارجي، هل كانت دول إقليمية كبيرة ومجاورة لها، ومعها حدود مفتوحة، ستعيش حالة استقرار دائمة طوال الخمسين سنة الماضية؟ فعلى الدول الإقليمية المجاورة بعربها وفرسها، أن تتساءل كيف تمكنت السلطنة من ضبط حدودها حتى تصنع الاستقرار فيها؟ وكذلك على العالم أجمع أن يتساءل الآن، كيف نجحت مسقط في تأمين سلامة وأمن الممرات المائية التي تشرف عليها، ومنها لم نشهد أي تهديدات للمصالح الإقليمية والعالمية؟

دولة طوال الخمسين سنة الماضية، لم ترسل جيشها لخارج حدودها للغزو، أو لنصرة طائفة على أخرى، أو إسقاط نظام أو الاستيلاء على أراضٍ، دولة لم تساهم في إراقة دم شقيق أو صديق أو إنسان أياً كان جنسه أو لونه أو مذهبه أو يختلف معها، دولة لم تطمع في جيواستراتيجية غيرها، دولة تنازلت عن أراضٍ لها للأشقاء في دول الجوار من أجل ديمومة الاستقرار والسلام في المنطقة، فمثلها، لن تتنازل عن حيادها الإيجابي، ولا ينبغي أن تحمل على التنازل عنه، وليس في مصلحة الاستقرار والأمن الإقليمي والعالمي تخلي عمان عن حيادها.

دولة الكل يعلم تاريخها الإمبراطوري وقوتها البحرية العالمية التي أسست بها هذه الإمبراطورية، فلو فتحت شيتها التاريخية، سيظهر أمامها هذا التاريخ الطويل، وسندخل في إشكاليات الحقوق التاريخية، لأنَّ إنسان زمن الإمبراطورية العمانية هو نفسه الإنسان زمن الحياد المُعاصر، هي برمجة ذهنية، يُمكن إدارتها بالريموت السياسي، فليحرص الكل على بقاء هذه الدولة ضمن تأسيس المؤسس، وتبني المجدد، فهي مصلحة إقليمية وعالمية، كما أنَّ استمرار أمنها واستقرارها بقدر ما هو شأن داخلي، هو كذلك هاجس إقليمي وعالمي، وفق ما أوضحناه سابقاً، وهذه رسالة مسقط للعالم، تخرج وهي تحتفل باليوبيل الذهبي.

تغمد الله الراحل مُؤسس النهضة العمانية، بواسع رحمته ومغفرته، ونسأل الله جلَّ في علاه لجلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه-، النجاح في تجديد هذه النهضة لما فيه خير الوطن والمُواطن في حاضره ومستقبله، وخير الاستقرار والأمن الإقليمي والعالمي.

الأكثر قراءة