بين جفاف الضرع ورحيل الحلاب

علي بن سالم كفيتان

كم أشعر بالغبطة والسرور أنَّ الحلاب رحل دون أن يُدلي بتصريح أو يرمي بتغريدة عبر التويتر تتناول بلادي؛ ورغم تلك السعادة، هناك استغراب يدور في أذهان الكثيرين كيف استطاعت عُمان النأي بنفسها عن سطل ذلك الحلاب المُتمرس الذي أنهك جموع القطعان في العالم ابتداءً من الصين وانتهاء بالشرق الأوسط وأوروبا.

قلت في نفسي هذا درس عميق في علم السياسة يجب إدخاله في المساقات التعليمية للجامعات الدولية التي تهتم بفنون الحكمة في اتقاء الظواهر والكوارث السياسية التي تحل بالكون على مستوى الرؤساء وانتابني شعور آخر بأننا حلابون متمرسون فالضرع قد جفَّ منذ زمن بعيد ولم يعد فيه ما يُمكن تقديمه لهذا الصديق المتهور.

استعادت أخيراً الولايات المتحدة الأمريكية نفسها برحيل دونالد ترامب؛ فرغم توفير الوظائف وعلو كعب الاقتصاد الأمريكي، إلا أنَّ ذلك لم يشفع لعودة الرئيس؛ فالأمة الأمريكية لم تعتد من قبل على تحويل العالم إلى متجر بعيدًا عن القيم السياسية والإنسانية حتى ولو بصفة انتقائية، فقد أرهق الرئيس الكون عبر نمو العنصرية ومُحاربة الأديان والدفع بالدول قسرياً للتطبيع كأوراق سياسية في حملته الانتخابية وحصار أمم بأكملها اقتصادياً، ودعم حروب عبثية يذهب ضحيتها آلاف الأبرياء لمجرد بيع السلاح وعمار الخزينة الأمريكية كل تلك السلوكيات جعلت من أمريكا ذلك الوحش الأعمى الذي يُدمر العالم ويتلاعب بمصير الشعوب والأمم.

لن نندم على كميات الحليب التي راحت سدى، فالقطيع سيلد قريباً الكثير من العجول وستعمر الضروع مُجدداً، لكن طريقة الحلب ستكون في الظلام، فالديمقراطيون لا يختلفون كثيراً عن الجمهوريين، إلا في موقع الزريبة، فلا تصريحات ولا إهانات على "تويتر" بل استقبالات حافلة ومديح لا ينتهي، وسيتحول الكل سريعاً إلى الشريحة الجديدة، وسنشهد انطلاق التفاوض العبثي حول القضية الفلسطينية والذي لا يفضي لشيء سوى الاستقبالات والتوديعات في رام الله وعقد القمم التي تشجب وتستنكر الاحتلال اليهودي لفلسطين. الديمقراطيون هم أرباب عملية السلام الوهمية تلك ابتداءً من جيمي كارتر وانتهاء ببيل كلينتون؛ ورغم كل تلك المحطات لا زال الشعب الفلسطيني يرزح تحت الاحتلال بل تمَّ تقسيمهم إلى دولتين واحدة في غزة والأخرى في رام الله.

سيتسابق الجميع لإنهاء الصراع اليمني وعودة الاتفاق النووي مع إيران وستمثل السلطنة حجر الأساس في هذه الملفات لثقة الأطراف المتنازعة في نزاهتها واستخدامها لقوتها الناعمة بشكل احترافي لكننا لا يجب أن نفعل ذلك بالمجان كما كنَّا؛ بل نرى أهمية وضع المصالح الوطنية في المُقدمة، فكل الأطراف تحتاجنا في هذه المرحلة من الأشقاء وحتى الأصدقاء لتخفيف الأعباء السياسية والاقتصادية التي لحقت بهم خلال الولاية الأولى للرئيس الأمريكي الراحل ويجدر بنا أن نحسن التصرف، ففي عالم السياسة كل الأمور مُمكنة فبلادنا تمر بضائقة مالية نحتاج معها لتوظيف العنصر السياسي وجني ثمار القوى الناعمة العُمانية.

نتوقع عودة العلاقات الخليجية إلى سابق عهدها بعد زوال القوى الضاغطة لتعميقها، ونتوقع كذلك تعافي الاقتصاديات النفطية وحلول موسم الربيع الثاني مع قيادة بايدن. فهل سنتخلص من الحقد المتجذر في ذواتنا الخليجية ونعيد تشكيل الحلم بالوحدة والمصير المشترك في هذه البقعة من العالم؟ فقد رحل المؤسسون وجرب الخلفاء عنترياتهم وعلموا مدى فداحة الخصومات البينية؛ فالخزائن باتت فارغة، والشعوب ترزح تحت وطأة الضرائب وقلة الفرص الوظيفية، وبات الغراب ينعق على شواطئ خليجنا، فمن كان بالأمس عدوًا بات صديقاً تفتح له كل الأبواب، بينما الأشقاء توصد في أوجههم كل الأبواب، حتى السماء لا يمكنهم عبورها، وعلى سفنهم الإبحار بعيدًا على الجرف.. فهل سنراجع أنفسنا؟!

سأظل مُفتخرا ببلادي ومدافعاً عن مواقفها الرصينة؛ فالسلطنة لم تخذلنا يوماً ونعد أنفسنا أمة نداً لكل الأمم، لذلك ظلت مواقفنا ثابتة ولم تتزعزع، فعندما هنأ سُلطاننا- أيده الله- الرئيس الأمريكي الجديد، نستحضر أوَّل رسالة نقلها الشيخ أحمد بن النعمان الكعبي إلى الرئيس الأمريكي مارتن فان بيورين عام 1840 مبعوثاً من السيد سعيد بن سلطان على متن السفينة سلطانة... وهنا يكمن الشعور بالندية.