د. عبدالله باحجاج
أغلبهم من فئات كبار السن الآن، تغرَّبوا لعقود في الدول الخليجية، واشتغلوا في مختلف قطاعاتها المدنية والعسكرية، وعانوا من مُختلف أنواع الضغوطات طوال غربتهم المعيشية، خاصة في أوقات موجات المد والجزر السياسي مع بعض الدول؛ فمنهم من سُرِّح دون حقوق، ومنهم من حُوِّلوا إلى شركات وبرواتب أقل من الوظائف الحكومية، دفعوا وحدهم ثمن السياسة وتقلباتها الظرفية من أعمارهم وسيكولوجياتهم كونهم عمانيين فقط، والآن وداخل وطنهم يتحمَّلون ثمن أخطاء وتقصير وإهمال مسؤولين قدامى، وسوء تقدير مسؤولين جدد، وهنا وجب فتح ملفهم مجددا بعد أن وقفنا على آخر تطوراته.
يُمكن أن نطلق عليهم "جيل الآباء"، قياسا بالعمر الزمني لمن في السلطة الآن بعد إحالة الجيل القديم من المسؤولين للتقاعد؛ فهل يشعر الجيل الجديد من المسؤولين بهذه الرابطة الأبوية تجاه هذا الجيل؟ ينتابُنا هذا الشعور ليس بصورة متخيلة وإنما متعايشة، ولنتصور ملامح من جوانبها الدرامية في كثرة مراجعاتهم واتصالاتهم الهاتفية لمكاتب المسؤولين وهواتفهم النقالة الخاصة، وزيارات البعض حتى لمنازل المسؤولين من أجل معاشاتهم التقاعدية الإلزامية، ولا حياة لمن تنادي، ليس كعدم اعتراف بها، وإنما لمبدأ الأولويات الذي تنظر إليه وزارة المالية.
إنَّنا نتحدث عن قضية العسكريين العُمانيين الذين تقاعدوا في دول مجلس التعاون الخليجي، وقد فتحنَا قضيتهم في عدة مقالات سابقة؛ فالقانونان الخليجي والعماني، يلزم كل سلطات كل دولة خليجية بمنحهم المعاش منذ العام 2006، بعد اعتماد القادة القانون الخليجي الموحد، وبعد تبنيه بالمرسوم السلطاني رقم 5/2006 في العام نفسه، لكنه لم يُطبق في بلادنا حتى الآن، وقد طُبق في الدول الخليجية الأخرى؛ بحيث أصبح المواطن السعودي الذي كان يعمل في الإمارات مثلا يتمتع براتب تقاعدي بعد مد مظلة وطنه التأمينية، بينما عسكريونا لا يزالون محرومين من حقهم في المعاش التقاعدي الإلزامي رغم وجود المرسوم السلطاني السامي.
فالمشهد قاسٍ عليهم الآن؛ فقد انتقلوا من صراعات لقمة العيش في الغربة، إلى صراعات المعاش التقاعدي داخل الوطن، وقد بلغ الكثير منهم من العمر عتيًّا، وصل بالبعض منهم إلى أن يبيع سيارته لدواعي معيشته، وآخرون لن نجد عندهم ما يبيعونه بعد أن استحكمت عليهم الأزمات المعاصرة، وحتى دون أزمات؛ فكيف يكون وضع رب أسرة دون أي دخل؟!!!
هذه القضية قديمة/جديدة، ورغم جوانبها الإنسانية والوطنية والحقوقية المستحقة في آنيتها، إلا أنها لم تحرك المسؤولين حتى الآن، وقد ركزتُ في آخر مقالاتي عنها على شقها الحقوقي، وطالبتُ اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان العمانية بالتدخل بحكم صلاحياتها كلجنة تُعنى بحقوق الإنسان في بلادنا، ليس من المنظور الإنساني، وإنما الحقوقي، وعلى اعتبار أنَّ هذه الحقوق يُؤطرها وينتجها قانون سامٍ لم يطبق حتى الآن، وهذا مساس بقدسية هذا التشريع السامي. ومن هنا، تعدُّ معاشات تقاعد كل عُماني يعمل في إحدى الدول الخمس الخليجية إلزامية بحكم هذا التشريع، واستحقاقه -أي المعاش- وفي وقته ملزم.
يبدُو أنَّ اللجنة الوطنية العُمانية لحقوق الإنسان لم يُمكِّنها طابعها الحكومي واختصاصاتها الراهنة من إطلاق يدها للانتصار للحقوق المقننة لهؤلاء المواطنين، رغم إيمان كوادرها وأطرها وقائدها بقضيتهم، وهى صلاحيات تقلِّص مساحة فاعلية اللجنة وتأثيراتها؛ حيث ترسم لها حدودًا تتوقف عندها سواء أفقيا أو رأسيا، لكن: هل نقبل منها الاعتداد بالحدود؟ لا نَزَال نُراهن كثيرا على أداء قمة رئاستها بحكم خبراته وتموقعاته النافذة، وقدرته السياسية على تجاوز حدود الصلاحية، ولما لمسنا منه الإيمان الكبير بهذه القضية.
خمسة أشهر مضتْ على كتابة آخر مقالاتي عن هذه القضية، مُعنون باسم "لجنة حقوق الإنسان العُمانية.. ومتقاعدو عسكريينا في الخليج"، واكتشف مُؤخرا أن ملف القضية مُجمَّد في وزارة المالية؛ لأنه ليس من ضمن أولويات المرحلة الراهنة بسبب الأزمة المالية، وإذا لم يكن المعاش التقاعدي للمواطنين من الأولويات، فما هي معايير الأولوية؟ وكم حجم المبلغ الذي يُفترض أن تدفعه وزارة المالية، إنه 40 مليون ريال -وفق مصادر المتقاعدين- فهل هذا مبلغ كبير حتى يستعصي توفيره أو يتم تجميده؟
فالمرسوم السلطاني سالف الذكر يُلزم مؤسسات الدولة المعنية بالمعاش التقاعد منذ العام 2006 لكل عماني يعمل في دول مجلس التعاون الخليجي، وقد تقاعد المئات منهم منذ العام 2010، ولم يُمنحوا حقهم في المعاش حتى الآن؛ وبالتالي نحن هنا أمام قضية متشعبة من الإشكاليات؛ أبرزها: تشريع سامٍ لم يُنفذ، وهو يلزم السلطات الداخلية بالتنفيذ الفوري، وأمام مُعاناة اجتماعية بسبب عدم التنفيذ، وأمام قانون خليجي يستفيد منه الأشقاء في الخليج، ما عدا مُواطني بلادنا.
ورغم أنَّ بلادنا هي الأولى بتطبيقه لعدة اعتبارات؛ أهمها: المساواة مع الأشقاء في الخليج، وكون المكون الاجتماعي قد أصبح منتشرا ومتواجدا داخل دول مجلس التعاون الخليجي في مختلف القطاعات، وهو الأكثر عددًا؛ وبالتالي بلادنا أولى بتطبيق هذا التشريع من هذه الاعتبارات على الأقل.
لا نَزال نُراهن على رئاسة لجنة حقوق الإنسان بعد ما أبدته من تعاطف وجهد كبيرين، يجعلنا نقول لها إنَّ القضية لا تزال من اختصاصكم الحقوقي رغم علمنا بطبيعة صلاحيات اللجنة، لكنَّنا نعلم فاعلية وأداء وقوة رئاستها، كما نتوجَّه الآن بهذا الملف إلى المكتب الخاص؛ فقد طال انتظار هؤلاء المواطنين لحقهم في المعاش التقاعدي، ونتمنَّى أن نكتب مقالا مُقبِلا فيه انفراج لأزمة عسكريينا السابقين في الخليج؛ فست سنوات يترقَّبون حقهم التقاعدي مدة زمنية طويلة جدًّا، وكل سنة سينضم إليهم آخرون، فلابد من استعجال الحل، وحلها ليس معقَّدا، كل ما يتطلب الآن تحريك هذا الملف من الإدراج، وجعله من الأولويات، والمبلغ ليس كبيرا، وقد يكبر إذا تم تأجيله.. آباؤنا وإخواننا من العسكريين المتقاعدين في الخليج يترقبون من الكل التدخل لحل قضيتهم، ولا نعتقد أنَّ مبلغ معاشاتهم التقاعدية بالحجم المستعصي أو المُثقل على موازنة الدولة، لكن هي تقديرات ينبغي أن تتغيَّر، وتدفع بتحريك ملفهم من الأدراج إلى التنفيذ، فهل سنسمع قريبا أخبارًا سارة لهم؟