محطات: هرقل الرياضة!!

المعتصم البوسعيدي

في الرياضةِ عوالم من التجاربِ الإنسانيةِ العظيمة؛ حيثُ السفر من اللعبةِ إلى الحقيقةِ ومن الترفيهِ إلى الجدِ ومن الأحلامِ إلى الواقع، لا شيء يأتي صُدفةً وإن أتى فسيذهبُ مع أوَّل نسمة ريح، وتلك حياة النجوم التواقة لفضاءِ المجد ولمعانِ الفخر وسط ظُلمة التحديات.

نجمُ محطتنا عاشَ طفولته خارج حدود الوطن مع رائحةِ المناجم وشقاء آثار الحروب، هُناك في بلغاريا على مشارفِ نهاية ستينيات القرن الماضي ولدَ الصغير القصير بين أخويه، وغاصت براءته في الماءِ لعباً ولهواً، وشاهدَ الأيادي لا تقوى على أثقالِها، حتى إذا ما حملها هو لفتَ الانتباه وصارَ على مرمى العين الشاخصة لمُستقبلٍ بهي.

ما بين رغبة الأم الطبيعية في احتضانهِ، وقناعة مُدربه بعلوِ شأنهِ، مضى ابن التاسعة لمصيره سريعاً في قفزاتهِ برفعه أثقالاً أولى زينت صدره بالذهب وفتحت نوافذ الابتسامات لهُ ولمدربهِ وعائلتهِ ومجتمعهِ التركي في بلغاريا الذي بدأ يستشعر التغيير وانقلاب الأحوال تضييقاً واستبداداً ثم فرضاً لواقعٍ جديد يُريدُ مسح ديمغرافيتهم وأصولهم التركية للأحياء منهم والأموات.

الطفل صارَ فتى وبطلاً بلغارياً لامع يُستشرفونَ فيه التمثيل الوطني في أكبر التظاهُراتِ الرياضيةِ العالمية، لا شيء يوقف تحطيمه للأرقام وكسب البطولات، لكن الأزمة السياسية لم تكن ببعيدة عنه، أرغموه على قولِ ما لا يُريد، غيروا اسمه التركي من "نعيم سليمانوف" إلى " ناوم شالامانوف"، فانتقلَ الأمر ــ برمتهِ ــ إلى الملعبِ السياسي وقضية إرث وطني لا مساومة عليه، فكانَ "الصبر مفتاح الفرج".

هذه "ملبورن" الأسترالية في العام 1986م أين تُقام بطولة العالم لرفعِ الأثقال، ينجح البطل في اختراق الطوق البلغاري الصعب ويصل إلى السفارة التركية بتضافر جهود أبناء المهجر والسلطات الرسمية؛ مما أسفر عن توجهه إلى تُرابِ الأجداد عبرَ رحلةً لم تكن سهلةً البتة رغم أنها كانت بالطائرةِ الرئاسية، وحين الوصول أحتفى به الأتراك أيما احتفاء لتبدأ قصة جديدة وفصول مُثيرة وأرقام تتساقط كتساقط الأشجار في فصل الخريف، ويتغير اسمه ــ مُجدداً ــ إلى "نعيم سليمان أوغلو" ويصبح الأمل السعيد لآلاف الأتراك المستضعفينَ في أرض الغربة، فكانَ أن رسمَ مُخطط القول الفصل وتبيان الحقيقة للعالمِ أجمع؛ فاجتازَ اختبار الرياضة ــ أولاً ــ بتحقيقِ ذهبية أولمبياد سول 1988م، تحت الراية الحمراء بهلالها الأبيض متجاوزاً قسوة المرض آنذاك بالتغلبِ على منافس اليوم زميل الأمس البلغاري "ستيفان توبوروف" ثم صدحَ بالحقِ لتنفرج أسارير والديهِ ومجتمعهِ وكُلِ الإنسانية المُنصفة للقضايا العادلة.

لُقبَ نعيم بـ "هرقل الصغير"؛ لهيئته القصيرة وقوته وإنجازاته الظافرة؛ فقد واصلَ اقتناص الذهب الأولمبي في برشلونة 1992م على حساب أحد منافسيه التاريخيين الذي رافقه خلال مشواره الرياضي اليوناني "فاليريوس ليونيديس"، كما أضاف ذهبية أتلانتا 1996م وبمجملِ ألقاب 21 بطولة أوروبية و22 بطولة عالمية وبـ 46 رقما قياسيا جعلته عنوان الصحافة العالمية الأبرز وغلافها الرئيس وحديث الناس والرياضيين، فأُضيف مع اسمه لقب جديد "رياضي القرن"، وباتَ مُلهماً لكُلِ الأجيال، لم يذق طعم الخسارة والفشل في البطولاتِ إلا لمامًا، ومع تقدمه بالعمر لم يستطع الوصول إلى حلمهِ الأخير بالفوز بذهبيةِ أولمبيةِ رابعة في أولمبيادِ سيدني 2000م، فقررَ يومها الاعتزال وعاشَ في عالمِ السياسة.

صارع هرقل الصغير المرض ولم تُسعفه قوته في التغلب عليه، وعلى نقطة الصفر في الخمسين ربيعاً ترجل الفارس من صهوة الحياة في نوفمبر من العام 2017م، فبكتهُ تُركيا قاطبة من أصغرها وحتى قائدها "أردوغان" الذي قال: "سيذكرك التاريخ بكُلِ حُب واحترام" كما نعته كل أطياف العالم الرياضي حتى أن حساب نادي برشلونة الرسمي أرسل تعازيه للأتراك واستشهد ببطولاته الأولمبية الثلاث التي كان من بينها ذهبية برشلونة، فيما أقيمت جنازةَ رسمية حاشدة لفَّ فيها جثمانه بالعلم الوطني، وحتى تُكرم سيرته بالوفاء وتحكى قصته الأسطورية أُنتج فلم يخلد ذكراه العطرة.

إن محطة هذا النجم تُعد نبراساً للأجيال؛ حيث التضحيات الجليلة والرسالة النبيلة، ومعاني الصبر والكفاح، والانكسار والنجاح، وخذلان بعض البشر ومساندة بعضهم الآخر، أصبح رمزا وطنيا دفعت من أجلهِ تركيا مليون دولار لبلغاريا حتى يقبل العالم الدولي أن يدافع نعيم عن ألوانها، ثم إنه صارَ مصدر الاعتزاز للبلدِ وفخر الأقلياتِ المقهورة في كُلِ بقاع الأرض، وإذا كان هرقل ملك الإمبراطورية البيزنطية قد حكم العالم وذاع صيته في الزمان الغابر، فإنَّ هرقل نعيم ملك رياضي وسلطان سلام إنساني، أيقن بقضيته فدافع عنها حتى الممات.