بين مكتب المدير وطاولة الموظف (4)

ناجي بن جمعة البلوشي

إذا كُنا قد توقفنا في مقالنا السابق عند الثغرات المتاحة للمتربصين الأجانب بالنيل من الدول وشعوبها بواسطة وجود تلك الفجوة النفسية؛ فإننا سنبدأ مقالنا هذا بالشمولية التي تولدها تلك الفجوة النفسية في الداخل المجتمعي وبين أبناء الدولة ذاتها دون أي تدخل أجنبي، وبما يؤدي لانهيار الدولة برمتها، خاصة إذا ما وصل الفساد إلى كل مفاصل الدولة وبين كل أفرادها، هذا لأن الطرفين من الإنسان الجديد هم من أبناء المجتمع فكيف بهم وقد وصلوا إلى الفساد النفسي فإنهم بذلك الوصول يكونون أداة فاعلة في نشره في المجتمع برمته، ومنها ينتقل المجتمع كله إلى العمل بطرق الفساد الحقيقية ليصل بعدها إلى مسمى الشعب الفاسد في الدولة الفاسدة.

هُناك من الأمثلة الكثير لاقتناعنا بها؛ فمثلا إذا كان مُفتش الأغذية من مجرد بدئه في البعد عن الحق وطلبه للباطل، فإنه بذلك يكون فاسدا، وبهذا التصرف البسيط يمنح تاجر وبائع الأغذية مسلكا ليكون فعليا فاسدا لما يلقاه من تواطؤ مقابل ما يدفعه لذلك الفاسد، وتباعا، إذا قام واحد من بائعي الأغذية بذلك النوع من الفساد بتقديمه الرِّشى للمفتش، فإنه سيتبعه الكثيرون من بائعي الأغذية بنفس النمط الذي هو أصلا مسلك سار عليه غيره من البائعين، كذلك المفتشون سيسيرون على نفس أسلوب الموظف الفاسد ليس باختيارهم فحسب، وإنما لما سيلقونه أمامهم من واقع؛ فذلك الموظف سيقوم بنشر ذلك الفساد في قسمه وبين الموظفين، كما أن البائعين سيستعينون بأول المستسلمين منهم وهو سيدلهم على ما يتخذونه من إجراء تجاه ذلك المفتش، المستهلك بدوره سيكون ضحية لهذا الفساد فالأغذية التي يحتاجها ويدفع مقابلها الأموال ستكون فاسدة، أو بها شيء من الغش التجاري الذي هو واسع الطرق والمنهجية؛ كاستبدال التواريخ وتقليل الوزن واستبدال المواصفات.. وغيرها؛ مما يُتاح له إذا ما أَمِن العقوبة؛ فالحكمة تقول "من أمن العقوبة أساء الأدب".

ولأنَّ هذا ما هو كائن بين الموظف وملاك المحال المرخصة المراقبة والمفتشة من قبل مفتشي الاغذية، إلا أنَّ الفساد سينتقل بين كل بائعي الأغذية كافة دون استثناء؛ فمن استعان به أولئك البائعين سيستعين به غيرهم من الأفراد وتجار الإنتاج للاستشارة، ولإعطائهم حلولًا حتمية لمجابهة أي مفتش أو رئيس قسم التفتيش؛ فالمفتش ذاته سلاحه مقابلهم معروف وبسيط وهو نفس السلاح لدى رئيس القسم، فتنتقل طرق الغش التجاري إلى الكل ومن بينهم الأفراد أهل الإنتاج المحلي لينشطوا في غش ما يُنتجونه من منتجات كخلط العسل البري بالسكر المحروق، وخلط السمن البلدي بالزبدة المستوردة، أو إضافة الماء والروب للحليب واللبن الطازج، أو بيع التمور في علب طبقاتها الأولى والأخيرة صالحة وأوسطها فاسد، وبمثل هذه الطرق من الغش التجاري التي أعتقد جزما بأنَّ كل عماني يعرفها ويعرف غيرها الكثير لأنه في البلد ومن أبنائها.

هذا المثال طرحناه للتوضيح فقط، وليس للحصر، فكما بدأه فرد وانتشر به الفساد في الأرض وبه ضاعت حقوق العباد، فمثله من الأمثال الكثيرة والمتعددة، ولا نقلل من شأن أي منها؛ فالفساد الإداري والمالي مثلا يوقف كل أنواع الاستفادة الحقيقية في جانب الاستثمار من المستثمرين، وفي شتى أنواع الاستثمار، وبهذا الفساد تكون أيدي أولئك الفاسدين عائقًا وحاجزًا للنهوض بالبلد من حالها إلى حال اقتصادي أفضل، وبه يتكوَّن رزق لأبناء البلد لترقَى معيشتهم الاجتماعية، إلا أنَّ الحال ليست كذلك عندما تتبدل مفاهيم الحق إلى الباطل؛ فيبدأ أول الفاسدين بوضع شروطه وطلباته وحُججه ليضطرهم للهروب من البلاد ونقل ما لاقوه من تجربة في هذا البلد لكل من يسألهم عن تجربتهم فيها، وبهذا التصرُّف البسيط الذي هو في أساسه مراد لفرد من الموظفين لكن واقعه هو استبدال الصالح بالطالح ليظل غير المستثمر مستثمرا، ويهرب المستثمر الذي نعده مستثمرا. وفي الجانب الآخر، يتولد أيضا من مثل هذا التصرف البسيط تعالٍ لأصوات وضجيج التذمر والسخط على أداء الحكومة ومقياس الرضا من جمهور المستثمرين، وهنا يصل إلى مسامع المستثمرين كل في دولته وملتقياته، وبه تكون لهم وسيلة شطب هذه البلد من سجل التفكير بالاستثمار فيه، وهذا كله بصمت دون أي ضجيج، هذا إذا كنا نتحدث عن هذه الأخبار والأحاديث الواصلة لمسامعهم عن طريق المعاملات البدائية في المقابلة أو النشر؛ فكيف هي إذا وصلت إليهم عن طريق التقنية الحديثة ووسائل التواصل الإلكترونية والمرئية المتقدمة، فهنا لابد لنا أن نُجزِم إذن أننا هنا أمام تحدٍ كبير لا يمكن توقيفه أو كبح مدى حركته وتحركه، وهو من مجرد تصرف فرد في بدايته.