حمد بن سالم العلوي
سرد قصة قصيرة من التاريخ قد يكون مفيداً في موضوعنا اليوم، حيث تروي هذه القصة كيف أنَّ "مغول العرب" الذين أشبعوا المناطق العُمانية غزوات وحروب، واستمر ضررهم يتكرر لسنوات طويلة، فتعب النَّاس ويئسوا من القدرة على صدهم، فاجتمعوا في حاضرة منطقة ما للتوقيع على هدنة مع الغزاة، ولكن قائد جيوش الغُزاة المغول رفض الهدنة، وأصرّ على التسليم الكامل- وأتيح لنفسي أن أطلق عليهم مصطلح "مغول العرب" لأنهم يتشابهان في القسوة والظلم هم ومغول القوقاز- ولم يكتفِ بالولايات الحاضرة للصلح، وإنما طلب ولايات من منطقة أخرى حتى تحضر للتسليم كذلك، فحضر القوم بناء على الدعوة، وهم يمثلون ثلاث ولايات، فوافقت ولايتان على التسليم ورفضت واحدة، وخرج أمير القوم وجماعته الرافضون للتسليم عن الجمع، فهددهم قائد المغول بالندم، ولم يلتفتوا لتهديده وهم يعلمون أنَّه لا محالة لاحقاً بهم.
كما إنَّ أمير القوم الرافضين للتوقيع والتسليم، كانت له وقومه ثارات قديمة وكثيرة مع المغول، وقد جرت بينهم صولات وجولات من الحروب والدماء في مواقع سابقة، وهم يعلمون أنَّ قائد جيوش المغول يتربص بهم ليأخذ بثأره وثأر من سبقوه من هؤلاء القوم، ويُريد أن يكسر شوكت عنادهم ورفضهم إلى الأبد، فترك الموضوع الذي هو فيه، على أمل أن ينتصر على الخصم الرافض للانصياع أو تسليم الجزية، وبذلك سيزيد من الرهبة في نفوس بقية القوم، وكأنه ضامنٌ النصر على القوم الذين رفضوا شروط الطاعة مع الجماعة، فقد جمع صناديد جيشه ولحق بالأمير الرافض إلى عقر داره.
أما الأمير الشجاع عندما وصل إلى بلدته عمد إلى حشد كل المُقاتلين، وزودهم بما لديه من عتاد وسلاح ومن رباط الخيل والجمال، ورسم لهم خططاً عاجلة للمعارك التي سيخوضونها مع العدو الشرس اللاحق بهم لا محالة، وهو يعرف أنَّ قائد المغول لن يغفر له حرمانه من قطف ثمار حروبه لسنوات عديدة، فبدأت الحرب في أول يوم من المعارك الحامية في المواقع الدفاعية المُتقدمة للبلدة، وكان قائد المغول يتفوق بالأسلحة الحديثة والعتاد التي كانت تمدهم بها أم الخبائث، وهي دولة معروفة للجميع عبر التاريخ، وطبعاً هم يفعلون ذلك حتى يدمروا بلاد المسلمين بالمتأسلمين نيابة عنهم.
وقد انتهى اليوم الأول بالتعادل، وكذلك اليوم الثاني والثالث، وكانت المعارك تتوقف في الليل لتبدأ صباح اليوم التالي، وفي نهاية معارك اليوم الثالث، وبعد توقف المعركة تقدم بعض علية القوم من أميرهم وقائدهم، فقالوا له لقد تعبنا كما تعب غيرنا من الناس فنرى أن نسلم حقناً للدماء، وكأن البعض لا يعرف بطبائع المغول فإذا ما انتصروا عليهم، فإنهم لن يبقوا لهم باقية، فقال لهم أميرهم عندي خطة بديلة وليوم واحد، فإن لم ننتصر فأنتم بعد ذلك أحراراً فيما ترون، وأنا حر فيما أرى! فوافقوا على رأيه، فرسم لهم خطة تؤجل القتال إلى وقت الضحى، وذلك حتى يُوهموا العدو بأنهم هزموا وهربوا من البلاد، وكان معروفاً أسلوبهم عند الانتصار ألا وهو التخريب والتدمير والحرق، فعندما رأوهم منشغلين بالتخريب وجمع الغنائم، وحرق الأموال من المزروعات والمنازل، هجموا عليهم هجوماً مُباغتاً من أربعة محاور، فعملوا فيهم قتلاً وتفريقاً حتى صارت الغلبة للأمير وصحبه المدافعين عن بلدهم، وقتل منهم أناس كثر من جنود المغول، وجرح قائدهم وهرب من المعركة، وسمي المكان الذي وقعت فيه المعركة بساحة النصر.
فلولا إصرار وشجاعة ذلك الأمير العُماني الأصيل، ورفضه تطبيق الشق الثاني من المثل القائل: (شعرة بين المرجلة والمذلة) لذلك كتب له النصر ورفع الأذى عن عُمان كلها، وهذه القصة واحدة من عشرات القصص البطولية التي كان يخوضها العمانيون، لذلك ظلت عُمان هي عُمان، والمثال الحي قائم على أطرافها، ولا يفترس الذئب إلا الأغنام النائية عن القطيع، وهكذا الزمان يمرض ويتعافى ولكنه لا يموت، والملاحم العُمانية ظلت عبر التاريخ تحكي عن بطولات كثيرة، وهذه الملحمة العُمانية التي غيرت واقعاً قد رسخه "مغول العرب" في هذه المنطقة، وربما كانت تلك المُوقعة الأخيرة، فلولا تلك المرجلة والبسالة منقطعة النظير، لكان احتلال المغول لعُمان سيتم تدريجيًا.
إذن؛ فإنَّ الأمور هي كما شهدتها دول فمن سره زمن ساءته أزمان، ذلك الذي قاله الشاعر أبوالبقاء الرندي، فعُمان العميقة في التاريخ تقلبت بين المسرة والمضرة، لذلك خضبها الزمان وخضبته، وهي ليست كالدول الصبيانية الناشئة، التي لم تجرب من الحياة إلا وجه واحد، ألا وهو وجه المسرة وحده، فسيحتاجون إلى قرون وقرون حتى يصلوا إلى رزانة عُمان ووقارها. إنَّ عُمان التي تمرغت في العزة والقوة الكبرياء قرونا من الزمن، لا يضيرها إن تعثرت في بعض خطواتها، وهي حتماً لا يخيفها الزمان بكثرة عثراته، طالما ظلت ثابتة على المبدأ وصادقة في مواقفها.
إنَّ الصمود العُماني في وجه الموجات المتكررة من الحروب الناعمة كما يطلق عليها اليوم، ليس أمراً مستحيلاً رده، ولا أمراً صعباً مواجهته، فخصوم عُمان اليوم "وهم قلة" لا يعلمون كنهها وقوة شكيمة شعبها، فيقيسون غيرهم على وهن مكانتهم، وهنا تبدأ سلسلة الأخطاء في عدم معرفة الخصم، فقد ظنَّ البعض أن عقدة النقص قد زالت عنه، وذلك برحيل السُّلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- بما له من كاريزما السلاطين العظماء، فتقاطر الواهمون إلى مسقط ظاهراً للعزاء وباطناً للشراء، فكانت المُفاجأة أنَّ الجبل الذي ظنوا أنَّه انزاح، قد خلّف خلفه جبلاً لا تقل صلابته وصلادته عن الجبل السابق، فعاد القوم بخفي حنين، لذلك عادوا إلى قيادة حملة شاملة ذميمة مسعورة، واستأجروا لها النائحين والنائحات، وكذلك سكان الفنادق في بلاد الضباب المدفوع لهم بالشيكات، للرَّغي عبر توتير والمجلات المأجورة، والجرائد الصفراء والحمراء، فلا نامت أعين الخونة والجبناء.
إنَّ المجتمع العُماني يعي الأزمات التي تتعرض لها البلاد، وإنه لا تشطح به الطموحات لأكثر من الممكن، ولكن في الوقت نفسه يتوجب على الحكومة أن تجد طريقة مأمونة لمصارحة الشعب عن حال الدولة، ولا نطالب بإفشاء أسرار مُهمة، وإنما أن يقال للناس إن لدينا أمل في كذا وكذا، وإن مستقبل عُمان سيصبح كذا وكذا بعد سنة أو سنتين، أما أن تضن الحكومة بكل المعلومات لها وحدها، فلا يجوز أن يترك الناس يضربون أخماسا في أسداس ولا يعرفون إلى أين هم ذاهبون؟!
وهناك من يلجأ إلى العرافين وقارئة الفنجان ليكشف لهم مستقبل بلدهم.. فهذا أمر لا يجوز! فإذا رغبتم من المواطن أن يعضدكم ويساندكم، أشركوه في تحمل المسؤولية.. ولو بالرأي، فستجدون أن المواطن هو عزوة بلده وسلطانه، وليس البنك والصندوق اليهودي "المسمى بالدولي" والحكومة تعلم أنها أصبحت هدفاً مشروعاً لهم، طالما أنها أطاعت ضميرها وشعبها، وتخلفت عن السقوط في الهاوية.