عندما تنهار البديهيات!! (3) *

عندما تنقلب الكتلة رأسًا على عقب

أ. د. حيدر أحمد اللواتي **

** كلية العلوم - جامعة السلطان قابوس

 

إذا أردنا أن نصف التغيرات في المفاهيم الفيزيائية في القرن العشرين التي نتجت عن النظريات العلمية، فإنَّ الوصف اللائق هو تداخل المفاهيم بعضها ببعض لأنَّ ما نلاحظه أن عددًا من المفاهيم التي كنَّا نظن أنَّها مُنفصلة تبين لنا أنها ليست سوى وجهين لعملة واحدة فالزمان والمكان اندمجا معًا ليكونا لنا الزمكان، وسنرى في هذه المقالة كيف أنَّ الكتلة والطاقة اندمجا معاً وأصبحا مفهوما واحداً.

ذكرنا فيما سبق عند الحديث عن النسبية الخاصة بأن سرعة الضوء هي السرعة القصوى المسموح بها في هذا الكون وهي سرعة لا يُمكن لأي جسم أن يصل إليها، ونتج عن هذا الأمر سؤال مفاده، لنفترض أنَّ جسمين يتكونان من نفس المادة كمًا وكيفاً ولكن أحدهما يسير بسرعة قريبة من سرعة الضوء والآخر يسير ببطء، ولنفترض أنك حاولت أن تسارع الجسمين، فهل الطاقة التي ستبذلها في زيادة سرعة الجسم الذي يسير قرب سرعة الضوء تساوي الطاقة التي ستبذلها لتحرك الجسم الذي يسير ببطء؟.

لا شك أنَّ الطاقة التي ستحتاجها لزيادة سرعة الجسم الذي يتحرك بسرعة تقارب سرعة الضوء ستكون أعلى لأنَّ الجسم وصل في سرعته عند الحدود القصوى من السرعة ولهذا فمقاومته لتغيير سرعته ستكون أشد وستحتاج إلى طاقة كبيرة جدًا لتزيد في سرعته أما الجسم الذي يسير ببطء فمقاومته ستكون أقل لأنه يتحرك ببطء، فإذا كانا يتكونان من نفس المادة كماً وكيفاً فلماذا يقاوم الأول التغيير في حركته أكثر من الثاني؟ وأين تذهب كل هذه الطاقة التي بذلتها في محاولتك لزيادة سرعة الجسم الأول والذي يسير بسرعة تقترب من سرعة الضوء؟ والجواب الذي توصل إليه آينشتاين على السؤالين هو أن الطاقة التي بذلتها تحولت إلى كتلة في ذلك الجسم الذي يسير بسرعة تقارب سرعة الضوء، فالجسم تزداد كتلته كلما ازدادت سرعته ولهذا فإنَّ مقاومته تزداد لتغيير سرعته.

وهذا يعني أنَّ الطاقة يمكنها أن تتحول إلى كتلة والعكس صحيح ومن هنا توصل آينشتاين إلى أشهر معادلة في تاريخ العلوم وهي التي تقول إن الطاقة تعادل الكتلة مضروباً في مربع سرعة الضوء سرعة الضوء تعادل ٣ X ١٠ ٩ مترا في الثانية الواحدة).

وقد لوحظ وثبت لاحقاً صحة ما توصل إليه آينشتاين حيث تبين أنَّ بعض الجسيمات الأولية تزداد كتلتها عندما تنطلق بسرعات قريبة من سرعة الضوء، ففي عام ١٩٥٢م، أعلن معهد التكنولوجيا في كاليفورنيا أنه استطاع أن يسرع بالإلكترون حتى وصلت سرعته إلى أقل من سرعة الضوء بقليل ولاحظ أن كتلة هذا الإلكترون قد زادت بصورة ملحوظة ووصلت إلى حوالي ٩٠٠ ضعف.

لكن هذه المعادلة توصلنا إلى نتيجة أخرى أكثر غرابة وهي أن الطاقة لها كتلة، ويتضح ذلك بصورة جلية عندما نحاول أن نحسب كتلة الجسيمات الأولية التي تكون البروتونات والنيترونات، فلقد وجد أن البروتون والنيترون اللذين يكونان معاً نواة الذرة يتكونان من جسيمات أولية تعرف هذه الجسيمات الأولية بالكوارك، وقد لوحظ أنَّ ما يفوق 99% من كتلة هذه الجسيمات (أي الكوارك) هي من الطاقة التي تحافظ على تماسك هذه الجسيمات.

كما تمَّ ملاحظة أن الشمس التي تشرق على أرضنا وتمدنا بكل هذه الطاقة الرائعة تدفع ثمن ذلك من كتلتها حيث إنِّها تفقد من كتلتها مليون طن في الثانية الواحدة، وهذا يعني أنَّه سيأتي يومٌ ما ولن نجدها في أفقنا لأنَّ كل كتلتها تكون قد تحولت إلى طاقة!!

لكن لا تقلق كثيراً فإنَّ ما فقدته الشمس منذ ولادتها إلى يومنا الحالي لا يعادل حتى 0.1% من كتلتها الهائلة، لذا فلا داعي للقلق فهي ستبقى تضيء أيامنا لقرون مديدة.

إنَّ الميكنة التي من خلالها تنتج الشمس الطاقة الهائلة مبنية على اندماج ذرتي هيدروجين معاً لإنتاج ذرة هيليوم ويحدث هذا التفاعل عند درجات حرارة هائلة ويعرف هذا النوع من التفاعل بالاندماج النووي، ولقد أدرك العلماء أنَّهم إن تمكنوا من القيام بهذا التفاعل والسيطرة عليه لأمكنهم إنتاج طاقة هائلة يمكنهم الاستفادة منها في مُختلف مناحي الحياة، لكن الإشكالية التي واجهتهم آنذاك هي الحرارة العالية جدًا التي يتم فيها هذا النوع من التفاعل، ووجدوا أنَّ الانشطار النووي أكثر سهولة ويسراً.

والانشطار النووي يهدف إلى شطر النواة لإنتاج طاقة هائلة وثبت واقعاً بأنَّ الطاقة المختزنة في كتلة النواة طاقة هائلة بإمكانها أن تدمر مدنا بأكملها، ففي الحرب العالمية الثانية، قامت الولايات المتحدة الأمريكية باستخدام الطاقة المختزنة في النواة لتصنيع سلاح فتاك، إذ تمَّ تحويل حوالي 600 غرام من اليورانيوم إلى طاقة، ونتج عن هذا التحول أسوأ جريمتين في تاريخ البشرية قاطبة، وهما جريمتا القنبلتين الانشطاريتين على مدينة هيروشيما ونجازاك ونتج عن الكتلة التي تحولت إلى طاقة دمار هائل لا يُمكن تصوره.

إنَّ مفهوم الكتلة التي كنَّا نعرفها بأنها مقدار ما في الجسم من مادة تغير بناءً على نظرية النسبية الخاصة فلم يعد هذا التعبير عن الكتلة صحيحًا فالكتلة في حقيقتها خاصية في الأشياء تجعل تلك الأشياء تقوم بمقاومة التغيرات في السرعة، فإذا دفعت شيئاً فسيُؤدي ذلك إلى تغير سرعته، ولربما دفعت شيئاً آخر بنفس القوة فتلاحظ أن سرعته تزيد بشكل أكبر، نقول عن الأول إنَّ كتلته أكبر من الثاني، لأنه قاوم التغيير في سرعته بشكل أكبر من الثاني ولذا أطلق على الكتلة "كتلة القصور الذاتي".

وهكذا أنقلب مفهوم الكتلة رأسًا على عقب، وتداخل مفهوما الكتلة والطاقة في مفهوم واحد.

ترى هل سيشهد مستقبل العلوم اندماجا آخر للمفاهيم الفيزيائية بحيث تتداخل كل تلك المفاهيم في مفهوم واحد؟ وما هو هذا المفهوم الذي ستتداخل فيه كل المفاهيم الفيزيائية الأخرى؟ إنها رحلة طويلة ولا ندري سنصل إلى نهايتها أم سنفنى قبل أن نصل إلى شواطئها.

-------------------------------

المصادر:

  1.  A Little History of Science – William Bynum
  2.  Quantum Theory Cannot Hurt You, A Guide to the Universe – Marcus Chown
  3.  We Have No Idea, A Guide to the Unknown Universe – Jorge Cham, Daniel Whiteson                  
  4. فلسفة القرن العشرين الأصول -الحصاد- الآفاق المستقبلية، يمنى الخولي.               

* عندما تنهار البديهيات سلسلة من مقالات علمية تهدف إلى نشر الثقافة العلمية بلغة مبسطة مفهومة تثير الخيال البشري وتجعله يُحلق في فضاء رحب، بعيدا عن مشاغل الحياة اليومية وصخبها.

الأكثر قراءة