مكتبة عُمان الوطنية

محمد البادي

 

في مقالي السابق؛ الذي حمل عنوان "لماذا يجب أن نهتم بالتاريخ" ذكرت أنَّ مُعظم الشعوب المتحضرة أولت اهتماماً بالغاً بعلم التاريخ، ومنطلق ذلك نظرتها الإيجابية لهذا الجزء الثقافي من الحضارة؛ باعتباره دروساً وخبرات سابقةً؛ وظفتها في تخطيطها الناجح للمستقبل، وأن دراسة سيرة الحضارات السابقة؛ لمعرفة كيف قامت وما هيَ عوامل ازدهارها ونهضتها وما هيَ أسباب دمارها وزوالها؛ تمكننا من الاطلاع على كمٍّ هائلٍ من التجارب، وبذلك نستطيع تحاشي الأخطاء التي وقعت فيها تلك الأمم، ونمضي قُدُماً نحوَ ما أراهُ التاريخ لنا مُناسباً، ولنبدأ مسيرة البناء والتعمير من النقطة التي توقف عندها الآخرون.

وسلطنة عُمان دولة عظيمة راسخة البنيان، لها امتداد حضاري ضارب بجذوره في أعماق التاريخ، وقد أنعم الله عليها بمخزونٍ تراثيٍّ كبير؛ من قلاعٍ وحصونٍ وأبراجٍ وأسوارٍ ومدافنٍ وحاراتٍ وأفلاجٍ؛ أنشئت على طراز هندسي ومعماري فريد من نوعه؛ ونقوشٍ على الصخور، ورسومات وزخارف على جدران الكهوف؛ وصناعات ومشغولات يدوية، أبدعتها يد الرسام العُماني عبر العصور.

كما أنها تمتلك من التراث غير المادي ما لا حصر له؛ يتمثل في علوم تفسير القرآن الكريم وعلوم الحديث الشريف والعقيدة والفقه والطب والهندسة وعلم الفلك والشعر والأدب؛ وقصص وحكايات وفنون شعبية، وغزارة دراسات وكتب ومؤلفات ومخطوطات، وجمع كبير لا حصر له من الآثار تناقلتها الأجيال؛ جيلاً بعد جيل؛ على مر الأزمنة وتعاقب الأيام.

فدولة عظيمة كالسلطنة، وأمة عُمانية ذات حضارات متعاقبة وموروثات مادية وغير مادية عبر حقب تاريخية موغلة في القدم؛ وامتداد حضاري في قارتي آسيا وأفريقيا؛ يستدعي وجود مكتبة وطنية أسوة بغيرها من الدول التي اهتمت بحفظ وتخليد أمجادها؛ لتكون هذه المكتبة بمثابة مستودع للإيداع القانوني للمنجز الفكري والأدبي والفني العُماني على اختلاف أنواعه؛ ولتعكس للأمة العالمية جميع هذه المنجزات.

وقد اهتمت الدول المتقدمة بإنشاء المكتبات الوطنية، لإدراكها العميق أنَّ المكتبة الوطنية تمثل ذاكرة الشعوب؛ والجامعة لشتات ما توارثته الأجيال خلال حقب مختلفة من التاريخ؛ ومقصداً مُهماً لعشاق المعارف؛ ومعلماً ثقافياً وأدبياً وفكرياً،  وهي المرآة الكاشفة عن المخزون الثقافي والأدبي والمعرفي للحضارات الإنسانية على امتداد التاريخ، كما أنها تعتبر عنوانا ثقافيا وأدبيا لأي بلد في العالم، ودليلا استكشافياً له، ووسيلة مهمة لإبراز سلسلة حلقات عقده المنتظم، وحافظةً لمنجزاته ومواريثه من السرقة والزيف والتشويه والضياع.

إنَّ اهتمام الشعوب المتحضرة بإنشاء المكتبات الوطنية نابع من الرغبة الصادقة لهذه الشعوب في أن تكون هذه المكتبات مركز إشعاع علمي وثقافي في المجتمع، وأن ما نراه اليوم؛ في هذا العصر الرقمي من تقدمٍ تقنيٍّ ومعرفيٍّ؛ لا يجب أن ينظر إليه بعين الريبة؛ على أنه عامل سلبي؛ يهدد وجود الكتب الورقية أو المكتبات، كما أنه عندما نرى لجوء معظم النّاس إلى قراءة الكتب الإلكترونية على شبكات الإنترنت، أو إحضار القارئ لأي كتاب من أقاصي الدنيا بضغطة زر واحدة وهو جالس في مكانه؛ أو حصوله على المعلومات التي يحتاجها من الشبكة العنكبوتية دون تكبّد أي جهد أو عناء؛ كل ذلك لا ينبغي أن يعدّ تهميشاً لدور المكتبات الوطنية؛ أو تقليلاً من قيمتها، لأن للكتب الورقية بشكل خاصٍ؛ وللمكتبة بشكل عام أهمية فريدة؛ وعلاقة حميمية مع القارئ والباحث عن المعرفة، فبعض المكتبات حول العالم؛ بتصاميمها الفريدة؛ وأجوائها الدافئة؛ ومناظرها الساحرة؛ تجعل القارئ يهوى ملامسة الكتب بكلتا راحتيه؛ ويسمع حفيف أوراقها؛ ويتنفس عبقها الفواح من بين صفحاتها؛ يستخرج اللؤلؤ الرطب من أصدافها؛ ليمضي ساعاتٍ طويلة في القراءة والمطالعة.