الشيخ صُباح.. فقدان أليم آخر

حاتم الطائي

◄ العلاقات العُمانية - الكويتية تعكس عُمق الترابط وتؤكد دورهما المؤثر في تماسك البيت الخليجي

فُقدان أليم آخر مرَّ بنا هذا العام 2020، برحيل سمو الشيخ صُباح الأحمد الجابر الصُّباح الأمير الراحل لدولة الكويت الشقيقة، أمير الإنسانية، وفارس الدبلوماسية الخليجية، ليكُون بذلك الفقدان الثاني لنا بعد المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد -طيَّب الله ثراه- الذي رَحَل عن عالمنا قبل تسعة أشهر.

لا شكَّ أنَّ مآثر الأمير الراحل لا يكفِيها مقالٌ أو حتى ملف خاص، للحديث عنها؛ فهي عديدة وتشمل مختلف نواحي الحياة، ليس فقط في الداخل الكويتي، بل أيضا على المستوى الخليجي والعربي والدولي؛ فالأمير الراحل صاحب بصَمَات واضحة في مسيرة العمل الخليجي المشترك، والوحدة العربية، والتضامُن الدولي في العديد من القضايا. وعندما نُلقِي نظرة سريعة على مآثر الأمير الراحل، نكتشف أنَّ الشيخ صُباح الذي تولى حكم الكويت لمدة 14 عاما، سطَّر اسمه في سجل التاريخ حتى قبل وصوله إلى سدة الحكم في يناير 2006، فقد شغل العديد من المناصب، وكانت البداية في العام 1954 إبان حكم الأمير الراحل سمو الشيخ عبدالله السالم الصُّباح، عندما عُين عضوا في إحدى اللجان التنفيذية العُليا؛ مما مهَّد الطريق أمامه للتعرف على تفاصيل العمل الحكومي اليومي، ومن ثمَّ قبل مرور عام تولَّى رئاسة دائرة الشؤون الاجتماعية والعمل، ثم تدرَّج الشيخ صُباح في مناصب عدة داخل مؤسسات الدولة الرسمية؛ مما أكسبه حِنكة سياسية ساعدته لاحقا في إدارة شؤون الحكم بحكمة ورويَّة وبصيرة نافذة، مُعتَمِدا على ذخيرته المعرفية بدهاليز الإدارة العامة، وتُوِّجت مرحلة الخبرات المحلية بتعيينه وزيرًا للإرشاد والأنباء عام 1962، وهو المنصب الذي عكس شغفه -رحمه الله- بقطاع الإعلام بمختلف أشكاله. وبعد تشرُّبه خبرات الحكم المحلي، توجَّهت بوصلته نحو السِّلك الدبلوماسي، في مسيرة حافلة بالعطاء تكلَّلت بتعيينه وزيرًا للخارجية؛ حيث ظل على رأس الدبلوماسية الكويتية لمدة 28 عاما، حقق خلالها انتصارات كُبرى لبلاده، على رأسها رفع علم الكويت فوق مبنى الأمم المتحدة في نيويورك بعد انضمامها للمنظمة الأممية عام 1963، فضلا عن توطيد العلاقات مع مختلف دول العالم، وكذلك تأسَّس مجلس التعاون لدول الخليج العربية خلال فترة توليه حقيبة الخارجية. وكل هذه الخبرات أسهمت في صقل توجهه السياسي العام الذي اختطه للكويت خلال فترة توليه الحكم.

وللشيخ صُباح علاقات طيبة ووطيدة للغاية مع السَّلطنة؛ فقد شهدتْ علاقات البلدين تطوُّرا كبيرًا خلال فترة حكمه -رحمه الله- وارتبطَ بعلاقات قوية مع السُّلطان قابوس -طيَّب الله ثراه- وكان لذلك أثر كبير في العديد من الجوانب، لاسيما الاقتصادية منها، فقد بلغت الاستثمارات الكويتية في السلطنة بنهاية الربع الثالث من عام 2019 وحده أكثر من 836 مليون ريال عماني، محتلَّة مكانة مُتقدِّمة بين الاستثمارات الأجنبية في بلادنا؛ مما يُؤكد قوة الروابط بين البلدين الشقيقين. ولعل الاستثمار الكويتي الأبرز في مصفاة الدقم، والتي تعد الاستثمار الأضخم بما يزيد عن 7 مليارات دولار.

وما يعكس عُمق هذه العلاقة الخاصة أيضًا بين الأمير صباح وعُمان، حرص الأمير الراحل على قضاء إجازاته في السلطنة، وتحديدا في نيابة الشويمية بولاية شليم وجزر الحلانيات بمحافظة ظفار؛ حيث كان يهوَى صيد الأسماك والاسترخاء في تلك البقعة الغالية من الأرض العُمانية الطاهرة. والجميع شاهد بالتأكيد ما ذَكَره الأمير الراحل عن انبهاره بعُمان وإعجابه الشديد بالشويمية، وما تنعَم به من هدوء يقول الأمير الراحل إنه لم يجده في أي مكان آخر في العالم.

تِلك العَلاقة القويَّة بين الأمير الراحل وعُمان تجسَّدت أيضًا في حرصه -رحمه الله- على حضُور عزاء السلطان قابوس، رغم ما كان يعانيه من حالة صحية، لكنَّه وصل إلى مسقط وقدَّم واجب العزاء، في خُطوة نالت التقدير الكبير من كل مُواطن عُماني، وقال آنذاك مقولته الشهيرة: "قابُوس ما مات وأنتم موجودين".

لذلك؛ يُمكن القول إنَّ ثمة مُتشابهات بين السُّلطان قابوس والأمير الراحل؛ فكلاهما تميَّز بالحكمة السديدة والبصيرة النافذة، والقُدرة على استشراف المستقبل، كما اتفقا -رَحِمهما الله- على السلام باعتباره خِيَارًا إستراتيجيًّا لكلا البلدين والمنطقة والعالم بأسره، وكلاهما أيضا حَرص على حلِّ الخلافات في المواقف الخليجية والعربية والدولية. فيكفِي أنَّنا عندما نتحدث عن الأزمة الخليجية يتبادَر إلى الذهن فورا الجهود الحثيثة التي قام بها الأمير الراحل لرأب الصدع وتقريب وجهات النظر بين الدول الخليجية، لحماية البيت الخليجي من أية مُنغِّصات.

رَحِم الله أمير الكويت الراحل الشيخ صُباح الأحمد الجابر الصُّباح، وأسكنه فسيح جناته، ونسَأل اللهَ التوفيق والسداد لسموِّ الشيخ نواف الأحمد الجابر الصُّباح أمير دولة الكويت الشقيقة، وأنْ يكون خير خلف لخير سلف، وأنْ تظل العلاقات العُمانية-الكويتية في تقدُّم وازدهار تحت ظل القيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -أيَّده الله وأبقاه.