العرب يفقدون قطبا آخر من أقطابهم ومرتكزاتهم

مرتضى حسن علي

appleorangeali@gmail.com

 

فقدتْ الكويت أميرَها الشيخ صباح الأحمد الصباح بعد صراع طويل مع المرض، عن عمر يناهز الـ91 عاما، وما إن أعلنَ وزيرُ الديوان ألأميري في الكويت خبرَ وفاة سموه، حتى انهالت التعازي من ملوك وأمراء ورؤساء الدول المختلفة لتعزية القيادة الكويتية والشعب الكويتي الشقيق في وفاة أميرها، وإبراز جهوده ومناقبه ومساعيه المتعددة، وقد أرسل صاحبُ الجلالة السلطان هيثم بن طارق أل سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- برقيَّة تعزية ومواساة إلى أمير الكويت الجديد سمو الأمير نواف الأحمد الجابر الصباح؛ أعرب جلالته عن تعازيه وصادق مواساته لسموه ولأسرة الصباح والحكومة الكويتية والشعب الكويتي الشقيق في هذا المصاب الجلل، كما أصدَر جلالتُه أوامره السامية بإعلان الحداد الرسمي لمدة ثلاثة أيام، وتنكيس الأعلام، وتعليق العمل في القطاعين العام والخاص خلال فترة الحداد الرسمي.

وقبل الإعلان الرسمي الصادر عن الديوان الأميري الكويتي، عاش الرأي العام الكويتي والخليجي يوما صعبا، بعد أن سَرَت شائعات تُوحِي بوفاة الأمير، وبوفاته فقدت الكويت "مهندس" سياستها الخارجية وعميد دبلوماسيتها؛ حيث اتبع الأمير الراحل سياسة دبلوماسية هادئة، أبعدت بلاده عن العديد من المشاكل والنزاعات والتوترات الإقليمية، رغم أنَّ الكويت ذاتها وقعت ضحية اجتياح أراضيها في 2 أغسطس 1990م، وعاشتْ أيامًا صعبة بعد أن تمَّ مسحها من الخريطة، رغم أنها لعبتْ دورَ الوسيط النزيه أثناء الحرب العبثية بين العراق وإيران، والتي دامت 8 سنوات دامية. الكويت أيضًا لعبتْ دورا مماثلا في أزمات مختلفة التي هزت المنطقة؛ منها: قيامها بمحاولات جادة لإنهاء الحرب الأهلية بين شطري اليمن في التسعينيات من القرن الماضي، كما بذل الأمير الراحل جهودًا مُقدَّرة لإيجاد مخرج للأزمة الخليجية التي تفجرت في الخامس من شهر يونيو عام 2017م، كما لعب الفقيد أيضا دورا لإنهاء نزاعات إقليمية عديدة.

وبسبَب مَناقبه العديدة، فإنَّ الفقيدَ سوف يترك فراغا في الشارعيْن الكويتي والخليجي، بل في الشارع العربي.

يُذكر أنَّ الفقيد الراحل تولى حُكم الإمارة في العام 2006م بعد وفاة أخيه غير الشقيق الشيخ جابر الصباح، ليكون الأمير الخامس منذ استقلال الكويت عام 1961م، والأمير الخامس عشر من أسرة الصباح التي حكمت الكويت منذ عام 1752م، وكان أول حكامها الشيخ جابر صباح، الذي حصل على مبايعة شعبية.

قبل أنْ يُصبح أميرًا على البلاد، لعب الفقيد دورا كبيرا في تشكيل السياسة الخارجية للكويت؛ نظرا لتوليه حقيبة وزارة الخارجية لمدة 40 عاما، كما تولَّى الحقيبة الإعلامية بعضا من الوقت وترأس الحكومة الكويتية من العام 2003م إلى عام 2006م، هذه السنوات الطويلة من العمل السياسي أكسبته الخبرة السياسية والحنكة الدبلوماسية، وساعدته في قيادة جهود الوساطة المتعددة، كما أكسبته حبَّ الكويتيين والخليجيين والعرب عموما.

مَسَاعي الوساطة التي قادها في أماكن مُتعدِّدة استمرت بعد استلام الشيخ صباح -رحمه الله- الحكمَ في العام 2006م. وبسبب مناقبه العديدة، ومحاولاته الحثيثة والمستمرة لدفع عجلة الحوار قامت منظمة الأمم المتحدة بتسميته قائدا للعمل الإنساني في العام 2014م، وهو لقب لم يسبقه إليه أحد، كما تمَّ تسميته من الكثيرين كأمير للإنسانية.

في عُمان، كان الحُزن واضحًا عند المواطنين العُمانيين على رحيل الشيخ صباح، وقد امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة بعبارات الحزن على رحيله، والإشادة بمناقبه المتعددة، وبمُواقفه المختلفة تجاه جملة من القضايا الخليجية والعربية، العُمانييون يُكنون حُبًّا خاصًّا للكويت وأميرها، مثلما كان الفقيد الراحل يحب عُمان وشعبها وسلطانها الراحل.

زيارة الفقيد لعُمان في شهر فبراير 2017م، حظيت باستقبالات رسمية وشعبية، تخلَّلتها مشاعر الود والمحبة العفوية؛ فجلالة السلطان قابوس وسمو الأمير صباح -رحمهما الله- كانا يُشكّلان كفتيْ ميزان الحكمة وصوت العقل في منطقة حسَّاسة مُلتهبة، تتقاذفها الأمواج المتلاطمة والشكوك المتبادلة، الفقيد الراحل كان أيضا يقوم بعدد من الزيارات الخاصة لعُمان بين فترة وأخرى، ويذهب للمنطقة البحرية العُمانية 'الشويمية' تحديدا، التي تبعد نحو 750 كيلومترا من العاصمة مسقط، لممارسة هواية الصيد، والشويمية تطل على بحر العرب وهي من مناطق الصيد الجميلة، وتمتاز برمالها الذهبية وشواطئها الطويلة وسلسلة جبالها النادرة الجميلة وبها ووديانها الساحرة، وتجوبها بعض الغزلان التي تستهوي الأنظار، كما تجري في وديانها المياه المتدفقة بعد هطول الأمطار الغزيرة. وفي هذه المنطقة الجغرافية المميزة التي صَنعتها الأشواق المتبادلة بين البحر والموج والرمل والصخر والجبل، والتي أصبحت من مناطق الصيد الجميلة نتيجة تنوع أسماكها ووفرتها وتعدد أحجامها، وهدوئها ونسيمها العليل ومناخها المعتدل طوال المواسم الأربعة، في هذه القرية كان الود متبادلا بين الفقيد الراحل وسكان القرية الطيبين المتميزين بالتواضع والبساطة وكرم الضيافة.

كان هو وجلالة السلطان قابوس -طيَّب الله ثراه- يُشكِّلان كفتيْ ميزان الحكمة وصوت العقل والدبلوماسية الهادئة، وفِي أشهُر قليلة فقدنا كلا الحكيمين.. رحيل سمو الشيخ صباح قد يُثير عددا من الأسئلة:

1- ماذا سيكون مصير مجلس دول التعاون الخليجي الذي مزَّقته الخلافات وتناقض الرؤى؟

2- كيف ستُؤثر وفاة الشيخ صباح الأحمد الصباح على مُرتكزات السياسات الخارجية الكويتية التي حاولت لعب دور الحياد في الأزمات العديدة.

3- ما مصير العلاقات بين الكويت وجارتها على الضفة الثانية من الخليج؟ ومن المعروف أنَّ الكويت بقيت مُحَافِظة على علاقاتها مع طهران، وكان الأمير الراحل من الحكام الخليجيين القلائل الذين زاروا إيران، وكان يبذل جهودا لتحسين العلاقات بين إيران ودول الخليج.

4- مَا تأثير رحيله على التوازنات القائمة في الخليج بعد أن تفجَّرت الأزمة الخليجية في 5 يونيو عام 2017م، ووضعت مجلس دول التعاون في أزمة عميقة التي ما زالت مستمرة؟

5- ما مُستقبل العلاقات بينها وبين جارتها العراق؟

6- هل ستستمر الكويت في مُقاومة الضغوط للتطبيع الرسمي مع إسرائيل، والانضمام للضغوط الأمريكية لفرض مزيد من العزلة على إيران؟

المراقبون يعتقدون أنَّه على الأرجح أنَّ الأمير الجديد لن يَبتعد عن نَهج أخيه الرَّاحل، لا سيما وأنَّ سمو الأمير الجديد الشيخ نواف الأحمد أشار إلى أنَّه سيتم السير على نهج الشيخ الصباح رحمه الله.

بفقدان أمير الإنسانية والعقل والحكمة؛ فقد الوطن العربي قُطبا آخر من أقطابه ومُرتكزاته الصلبة، نسأل الله أن يُعوِّض العالمَ العربيَّ بقيادات حكمية رصينة إنسانية في تفكيرها ومساعيها، لتكون خير خلف لخير سلف.. حفظَ اللهُ الكويت وأميرها الجديد وشعبها الشقيق.