السلام والتعاون بثقة وعزيمة وبلا خوف أو وجل

عبدالنبي الشعلة *

 

القضية الفلسطينية ستبقى مُستقرة في ضمير ووجدان شعوب وقادة دول الخليج العربية، وسيظل مصير الشعب الفلسطيني المنكوب ومُعاناته هَمًّا جاثمًا على صدورهم إلى أن يستعيد حقوقه المسلوبة بموجب القرارات والقوانين الدولية وضمن حل الدولتين وعلى أساس المُبادرة العربية؛ هذه قناعات ومسلمات راسخة لا تقبل ولا تخضع للمتاجرة ولا للمساومات والمزايدات.

من هذا المنطلق، وتحقيقاً لمصالحنا الوطنية، ودعماً لقضية أشقائنا الفلسطينيين يجب علينا أن نقتحم ميادين السلام والتعاون وأن نُكثف الضغوط على إسرائيل بكل قوة وجرأة وشجاعة وثقة، وبدون وجل أو خوف مما يروج له البعض بالتهويل والتضخيم من نوايا إسرائيل العدوانية وأطماعها التوسعية في منطقتنا الخليجية، وخُططها الرامية إلى الهيمنة الكاملة على وطننا العربي برمته.

إنَّ الصهاينة أو الإسرائيليين أو اليهود عمومًا لا يمكن لهم، وليس في مقدورهم أو طاقتهم أن يشكلوا ذلك الخطر الداهم الذي يستطيع أن يُهدد هويتنا وعقيدتنا وثقافتنا وتاريخنا وحضارتنا وتراثنا واقتصادنا وثرواتنا واستقلالنا وسلامة أراضينا وسيادة أوطاننا، كما يزعم ويحاول أن يحذرنا منه البعض.

إنَّ العدد الإجمالي لسكان إسرائيل لا يتجاوز 9 ملايين، منهم 7 ملايين فقط يهود، ومليونان عرب مُسلمون وقليل من المسيحيين، وإن العدد الكلي لليهود الذين يعيشون فوق سطح الكرة الأرضية بالكاد يصل إلى 13 مليون، وإذا افترضنا جدلًا أنهم جميعًا صهيونيون فكيف يُمكن لهؤلاء الصهاينة أن يتحكموا ويُهددوا مصير وتاريخ واقتصاد وثقافة وعقيدة 1,7 مليار مسلم من بينهم أكثر من 400 مليون عربي.

ولا يجب أن ترعبنا أو تخيفنا ولا أن نصدق أو حتى نستمع لمن يُردد الخرافة المتداولة أو الأسطورة التوراتية بأن حدود إسرائيل تمتد من الفرات إلى النيل، اليهود أنفسهم لا يصدقونها ولا يُؤمنون بها، وإن صدقها بعضهم فإنَّ جميعهم يدركون عدم استطاعتهم تحقيقها، واليهود لا يستطيعون ولا يفكرون في إعادة أمجادهم في اليمن، ولا الاستيلاء على السعودية ضمن خطتهم المزعومة بالعودة إلى نجران أو الرجوع إلى المدينة المنورة لاستعادة حصون وأحياء ومزارع أجدادهم من قبائل بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة اليهودية الذين أبعدوا منها عند بزوغ فجر الإسلام.

وليس صحيحاً ما قيل من أنَّ أطماع الإسرائيليين تمتد إلى سلطنة عُمان استنادًا إلى وجود مدينة اسمها "عبري" في محافظة الظاهرة العُمانية.

وللدلالة والتوضيح لنتوقف عند التجربة المصرية، فلليهود في مصر جذور ضاربة في أعماق التاريخ منذ عصر الفراعنة؛ حيث ولد فيها نبيهم ونبينا موسى (عليه السلام) كما جاء في القرآن الكريم، فكانت مصر هي الوطن الأول الذي نشأت فيه الديانة اليهودية، وأصبح وجودهم فيها هو الأقدم في العالم. وفي العصر الحديث بلغ عدد اليهود في مصر قبل قيام ثورة يوليو 1952 أكثر من 75 ألفاً، وكانت من أكبر الطوائف اليهودية في العالم العربي وأكثرها نفوذا وانفتاحا ومشاركة في مختلف المجالات في المجتمع المصري، فهل شكلوا أي خطر أو تهديد أو أضروا بالهوية الوطنية والتراث المصري أو الثقافة العربية أو العقيدة أو الاقتصاد في مصر؟ أم أن عكس ذلك كان هو الصحيح؟ وبعد الثورة رحلوا أو تم ترحيلهم جميعًا خلال 4 سنوات بكل سهولة ويسر ودون أن يبدوا أي معارضة أو مقاومة، واليوم لم يبق منهم سوى القليل. وقد مضى أكثر من 42 عاماً منذ أن وقعت مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل؛ ولم نرَ أو نسمع طيلة هذه الفترة أن إسرائيل قد اعتدت على مصر، أو احتلت شبرا من أراضيها، أو حاولت بسط نفوذها عليها.

إن الذين يروجون ويرددون مثل هذه الأقاويل، بغض النظر عن نواياهم وأهدافهم، إنما يعطون الإسرائيليين واليهود حجما أكبر من حجمهم، ووزنًا أثقل من وزنهم الحقيقي، ويستصغرون شأن أمتهم ويعملون على تثبيط عزائمها، ويحاولون تبرير إخفاقاتهم وفشلهم وهزائمهم.

إننا جميعًا ندرك، من غير أدنى شك أن إسرائيل أصبحت دولة قوية جدًا، وقد حققت الكثير من الإنجازات الخارقة والباهرة؛ لكنها تبقى دولة صغيرة لا تستطيع أن تنجز أيًا من تلك الأهداف والأطماع التي يروج لها البعض لإخافتنا وترويعنا، فهي تفتقر إلى الكثير من مقومات الدولة العظمى القادرة على تحقيق التوسع المزعوم. وفي نسخة العام 2019 من الدراسات السنوية التي تجريها جامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية عن أقوى 80 دولة في العالم وفقًا لفحص معطيات السياسة والاقتصاد والدفاع والسياسة الخارجية، وبعد استطلاع آراء 20 ألف شخص من المتخصصين من 4 مناطق مختلفة حول العالم، جاءت إسرائيل في المرتبة الثامنة، تلتها مُباشرة المملكة العربية السعودية، وجاءت دولة الإمارات العربية المتحدة في المرتبة 11؛ أي أن دولتين خليجيتين مجتمعتين تصبحان أقوى من إسرائيل.

وتاريخيًا، علينا ألا ننسى بأن بني إسرائيل أو اليهود لم يُعرفوا ببسالتهم أو شجاعتهم الخارقة، أو أنهم كانوا محاربين أقوياء أشداء، أو غزاة فاتحين إلا في فترات قصيرة جدًا في التاريخ، بل على العكس، فقد عاشوا ضعفاء خانعين مضطهدين في مُعظم مراحل تاريخهم الطويل، فحسب السرد القرآني والتوراتي كان اليهود عبيدًا في مصر الفرعونية لأكثر من 400 عام إلى أن أخرجهم النبي موسى منها. وفي طريقهم إلى الأرض المقدسة تاهوا 40 سنة في صحراء سيناء، وعندما وصلوا فلسطين وأقاموا بعد ذلك فيها ممالكهم تعرضوا للغزو والهجمات والتنكيل على يد الغزاة من قدماء المصريين والآشوريين؛ الذين شردوهم ودمروا مدنهم. ثم حلَّت بهم المصيبة الكبرى عندما غزاهم الملك البابلي "نبوخذ نصر" أكثر من مرة، فنهب مدنهم وقتل الآلاف منهم، ودمر هيكلهم، ونفاهم إلى بابل فيما سمي تاريخيًا بـ "السبي البابلي". وتصف التوراة ما الذي فعل بهم نبوخذ نصر في إحدى تلك الوقائع: "وأخرج من هناك جميع خزائن بيت الرب، وخزائن بيت المَلك، وكسَّر كل آنية الذهب التي عملها سليمان ملك إسرائيل في هيكل الرب، كما تكلم الرب، وسبى كل أورشليم وكل الرؤساء وجميع جبابرة البأس عشرة آلاف مسبي... لم يبق أحد إلا مساكين شعب الأرض. وسبى يهوياكين إلى بابل. وأُم الملك ونساء الملك وخصيانه وأقوياء الأرض، سباهم من أورشليم إلى بابل". ويقدر العدد الكلي من اليهود المسبيين إلى بابل بين 62000 و70000 شخص، وقد ظلوا في الأسر لأكثر من 70 عامًا.

وعندما تغلب الفرس على البابليين في عام 538 قبل الميلاد، أمر الملك الفارسي قورش بإطلاق سراحهم وعودتهم إلى فلسطين.

وبعد أن عادوا واستقروا في فلسطين، نشب الصراع والخلاف فيما بينهم، وتقاتلوا، ثم غزاهم الإسكندر الأكبر، وهزمهم، ووقعوا تحت نير الحكم الروماني، وحُرق هيكلهم مرة أخرى، ودمرت عاصمتهم، وتعرضوا للقمع والاضطهاد والمجازر، بعدها بدأ الصدام بينهم وبين الدين المسيحي الجديد، وصارت فلسطين جزءا من الامبراطورية البيزنطية وتم طردهم بشكل نهائي منها، وبدأوا مرحلة النزوح والتشرد والشتات في مختلف أصقاع الأرض.

في أوروبا، ومنذ العصور الوسطى كان اليهود يتعرضون على نطاق واسع للعنف والاضطهاد والتهميش والطرد والقتل لاعتقاد المسيحيين بمسؤولية اليهود عن قتل السيد المسيح.

وقد ضاعفت الأزمات الاقتصادية التي شهدتها أوروبا بعد ذلك من أحاسيس البغضاء والكراهية ضدهم ما أدى إلى ازدياد الرغبة في التنكيل والفتك بهم، وقد بلغ هذا الاضطهاد ذروته بقتل ما يقارب 6 ملايين يهودي في أفران ومعسكرات الإبادة النازية أثناء (الهولوكوست) في الفترة من 1941 إلى 1945.

هؤلاء هم اليهود الذين يحاول البعض أن يخيفنا ويرعبنا منهم، ونسأل الله أن يوفق أمتنا لما فيه الخير والصلاح.

*  وزير العمل والشؤون الاجتماعية بالبحرين سابقًا

الأكثر قراءة