الضغوط الخارجية صانعة القرار

 

بدر الشيدي

يُحكى أنَّ أحدَ القادة العرب أراد أن يتخذ قرارا مصيريا لأمر معين؛ فاحتار، وفكر واستخار، ثم ذهب إلى المنجمين فنصحوه بنصيحة كانت السبب في إرجاء القرار الذي كان ينوي اتخاذه!!

مثال واحد فقط يوحي لنا كيف يتخذ القرار في العالم العربي. كان ذلك زمن ولى وراح كما يقال. ما يؤخذ على العرب أنهم سريعو الانفعال والغضب، وصبرهم ينفد بسرعة ومتقلبو المزاج. ومتوحشون، وإذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب.

ليسامحك الله يا ابن خلدون، قلت عنا متوحشين وإذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب. اطمئن ربما نحن متوحشون لكن على بعضنا، والخراب لحق بأوطاننا ولم نتغلب إلا على بعضنا بعضا. ألصقت فينا صفات لا نستطيع الفكاك منها، صفات تخرج إلينا بين الحين والآخر، وخصوصا عندما تحل بنا نائلة أو مصيبة، فتتجسد لنا أنت وما قلته.

نقف اليوم على أعتاب لحظة تاريخية مفصلية في تاريخ العرب، ربما هي ملهاة كبيرة ودرامة ستكون نهايتها كارثية. ما يميز هذه اللحظة المفصلية هو إعادة صياغة العلاقات بين الدول على مبدأ الضغوط والابتزاز، فالويل والثبور لمن لا يستجيب.

الضغوط الخارجية والابتزاز الصهيوأمريكي جلي وواضح وضوح الشمس، فقد تعذر ولا تحسد بعض الدول على الموقف الذي تجد نفسها فيه. لكن ما الذي أوقعها عُرضة لهذا الابتزاز والاستغلال؟

ليس بخافٍ على أحد أنَّ الدول تحصد ما تزرع على مدى عقود. فقد آتى الزرع حصاده وأُكله. فما زُرِع من فساد وظلم ونهب للمال العام وتردِّي التعليم والصحة وانعدام الحرية ومصادرة الآراء والدكتاتورية المقيتة، والتحالف مع الأجنبي ضد مصالح الوطن، وسوء الإدارة، كل ذلك خلق وضعا داخليا لهذه الدول وأوقعها في مازق لن تستطيع الخروج منه بسهولة. وها هي النتيجة تظهر الآن بكل تجلياتها وعنفوانها، وهناك حُب السلطة والتربع على العروش أطول فترة ممكنة. كل تلك وغيرها أصبحت خيوطا وأوتارا حساسة تمسك بها أمريكا وحلفاؤها وتجيد استخدامها واستغلالها في أي وقت تشاء.

حكمتْ الأقدار على الأنظمة العربية أن تقف لوحدها في وجه العاصفة، تقف عارية، منفصلة عن شعوبها. ويبدو أنها هي من اختار هذا الطريق الذي ليس له خط عودة إلا بشروط وأدوات وآليات مختلفة. الأنظمة العربية أحرقت كل سفن العودة ولم يبقَ أمامها ولا خلفها شيء.

هكذا يبدو المشهد العربي غامضا ملتبسا متماديا في السوداوية، لكن ما يثير الاستغراب أيضا هو تلك الأصوات النشاز التي تخرج علينا بنظرياتها وتحليلاتها المقيتة، تُطبل وتمدح ويتمادون في الترويج لثقافة التطبيع، مستغلين في ذلك وسائل مختلفة من القوى في تهيئة الرأي العام الجماهير وغسيل أدمغتهم.

تُشير اللحظة إلى أنَّ العرب ضجروا وملوا من حالة العشق الخفي، وآن لهم أن يخرجوا تلك الحالة للعلن. شيء مذهل وغير قابل للتفسير. كيف تتسارع الدول العربية للتطبيع مع العدو الإسرائيلي دون أن تحصل على شيء يذكر.

وكما هو معروف، فإن العلاقات بين الدول تبنى على المصالح المشتركة، إلا بين العرب وأمريكا، فلا تجد تفسيراً منطقيا لها، هل هو عشق وهيام؟ لكنه بالتأكيد من طرف واحد.

رغم كل الضربات المتوالية التي تسددها أمريكا للعرب، يتلقون ذلك برحابة صدر وسرور، لا بل تطور الأمر بأن يتبرع بعض العرب في تهيئة المكان وتحضير الأدوات لتلك الضربات، وهناك من يتبرع ويدفع مبالغ طائلة عن ذلك. ببساطة تتجسد تلك العلاقة في  المثل العربي الشهير "القط يحب خناقه"، ذلك واضح وجلي.

تتسابق بعض الدول العربية في الجهر، وفي الخفاء، لمد العون وإلقاء حبل النجاة لترامب ونتنياهو ورغم أنهما من أكثر الرؤساء فساداً وعدوانية وعنصرية، وقد عانت الأمة العربية منهم كثيرا.

قد يقُول قائل إنَّ العالم لم يعد كما كان، وتغيرت أدواته ومفاهيمه. ندرك ذلك ونزيد عليه بأننا نعيش عالما تتداخل فيه المصالح وتصاغ فيه العلاقات الدولية بشكل جديد بما يتوافق مع متطلبات المرحلة المقبلة. نعي تماما بأن مفاهيم كثيرة قد تتغير، تآكلت الكثير من المبادئ والثوابت الأخلاقية والدينية، وظهرت تفسيرات جديدة للنص المقدس، فقد تغير مفهوم الوطنية والقومية. وتلاشى مفهوم السيادة الوطنية ولم يعد كما كان. لكن يبقى شيء من الكرامة والعزة والأنفة وبعض السيادة التي جاهد الأسلاف لانتزاعها من المستعمرين.

يقول آخر إنَّ رياح السلام إذا هبت فاغتنمها؛ ذلك صحيح تماما، لكن عن أي سلام يتكلمون وعن أي عيش مشترك ينزعون، وهم على مر التاريخ لم يحفظوا عهداً ولم يصونوا وعداً.

ليس مقبولا أن تهرول الدول العربية وتتسابق إلى الارتماء في حضن العدو الإسرائيلي، والقدس الشريف يئن تحت نير الاحتلال، وفلسطين كلها وأهلها يعانون الاضطهاد اليومي. ما الذي ستجنيه هذه الدول من تلك العلاقات؟ ما الذي ينقص هذه الدول التي عزمت أمرها وأرادت التطبيع مع هذا العدو الغاصب للأراضي العربية؟ دول حباها الله عناصر قوة: ثروات طبيعية وموقع جغرافي وغيرها، كان باستطاعتها أن تبدل عناصر ضعفها إلى عناصر قوة، وتسطيع أن تكون عوناً لكل للأمة العربية، لكن الخيار كان مختلفا تماما، عوضا عن أن تكون عوناً للأمة العربية ومناصرة قضايا، أصبحت عونا للقوة الأجنبية وعامل هدم لها، وكانت معولا في يد أمريكا وستصبح معولا آخر في يد إسرائيل وغيرها من القوى الأجنبية، تنفِّذ سياسات هذه الدول تجاه العرب والقضايا العربية الكبرى.

إذا كان لابد من ذلك، فليكن سلاما دون انتقاص الحقوق العربية الفلسطينية وإرجاعها كاملة بكل ما تعنية. وإن كان لابد كما قال محمود درويش:

فليكن واسعاً، لنرى الكناري فيه.. وأشياء أخرى

وفيه ممر ليدخل منه الهواء ويخرج حرا

وللنحل حق الإقامة والشغل في ركنه المهلهل

على مر العصور مرت على الأمة العربية كوارث وأزمات ومؤامرات كثيرة لا تعد ولا تحصى تجاهد، تبقى الشعوب العربية هي الضمان للخروج من هذه الحالة، ترفع الصوت عاليا وهو ما عبر عنه العديد من المثقفين الحقيقيين ورجال الفكر والوطنيين والبسطاء.

علينا أن نتدارك ونعي تماما ما يحاك لهذه الأمة، علينا أن نتدارك قبل أن تحل الكارثة. يجب أن تنهض هذه الأمة من كبوتها ومن حالة التردي والتراجع والتشرذم. يجب أن نعي تماما أن الصراع بين العرب والصهيونية العالمية وأمريكا ومن خلفها الغرب بات صراعا وجوديا، صراعا دينيا، وأن الخطر بات يهدد مستقبل الأوطان والاجيال القادمة في معيشتها وكينونتها ووجودها.

لذلك لابد للعرب أن يعودوا لبعضهم البعض، والدول أن تعود لحاضنتها الطبيعية، أن تعود للشعوب، وأن تكون تلك العودة بمزيد من الحريات والمساواة والعدالة، وأن يسود القانون بين الكل، وأن يشعر المواطن بأنه في وطنه وليس غريبا ينهشه الفقر والعوز، آن الأوان أن تكون مجالس الشعب أو الشورى مجالس منتخبة بشكل حقيقي قادرة على تحمل المسؤولية وتكون عونا في اتخاذ القرارات المصيرية التي تعبر عن الشعوب.