يوسف بن حمد البلوشي
بعزيمة صلبة وإرادة لا تلين تمضي السلطنة قُدماً في تحقيق رؤيتها وسط ظروف استثنائية مليئة بالفرص والتحديات. فقد كانت إعادة هيكلة الجهاز الحكومي خطوة أولى في طريق طويل لضمان عزة وأنفة وصمود هذا الوطن. ويعتبر ترشيق القطاع العام أمراً ضرورياً لرفع كفاءتها وتحسين إنتاجيتها وتطوير بيئة الأعمال القائمة على سرعة اتخاذ القرار.
والرؤية المستقبلية "عمان 2040" والتي تحمل في طياتها فلسفة جديدة وإطاراً عاماً شاملاً وواضحاً وجريئاً لتحقيق تحولات جوهرية تمس جميع مفاصل العملية التنموية وكما بنيت بمشاركة مجتمعية واسعة، فإنَّ مسؤولية تحقيقها مشتركة يلعب فيها كل منِّا كأفراد وأسر وشركات الدور الأهم فهي محصلة لأدوارنا وإيماننا بها. فنحن أفراد المجتمع من نملك الشركات ومنِّا تتشكل الحكومة والوطن.
ومع تشكيل حكومة جديدة، يحدونا الأمل بأن تكون بداية لمرحلة جديدة في استكمال بناء عُمان الحديث، وأن نستخلص الدروس والعبر من الأزمات المُتلاحقة الناتجة عن الاعتماد المفرط على أنبوب النفط والحياة الذي يمدنا بما نحتاجه من إيرادات عامة لتسيير الأنشطة الاقتصادية المُختلفة من خلال الإنفاق العام فإنَّ متطلبات المرحلة الآن تبدلت بفعل العديد من الاعتبارات التي تقوض حجم الإيرادات النفطية للسلطنة، الأمر الذي يُؤكد على ضرورة الانتقال إلى تكثيف استخدام أدوات السياسات الاقتصادية والاجتماعية، لتفادي بقاء الدولة أسيرة ثقافة الاعتماد على النفط، والتي تثبت يوماً بعد يوم استحالة استدامتها. ولكي نجني ثمار الاستثمار الضخم في البنية الأساسية خلال المرحلة الماضية نحتاج إلى تحولات نوعية ضرورية لنقل الاقتصاد العماني إلى المرحلة الجديدة من النمو وهي القائمة على الاستثمار والإنتاج والتصدير والعمالة الوطنية وجميعها لن تحدث تلقائياً وتحتاج عناية خاصة.
ولا جدال أنَّ الهيكلة الجديدة أولت اهتماماً وثقلاً كبيراً للفريق الاقتصادي ليتمكن من إدارة الاقتصاد بخطة واضحة المعالم أساسها تكثيف غير مسبوق في استخدام السياسات الاقتصادية القائمة على فهم عميق للديناميكيات الجديدة وقادرة على ربط عناصر القوة والموارد والفرص والمقومات معاً من خلال تحفيز المُتغيرات الاقتصادية والاجتماعية وتعظيم الاستفادة من مكتسبات خمسة عقود استثمرت فينا نحن أبناء هذا الوطن وأنفقت بسخاء في بناء بنية تحتية بأحدث المواصفات. كذلك، لابد من تفعيل منظومة العلاقات وعناصر التشبيك الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي المُؤثر في تحقيق مكانة دولية رفيعة تجذب بطريقة مدروسة العناصر المفقودة في خلطة التنمية من رأس مال وتكنولوجيا وخبرات وأسواق وغيرها.
ويتفق ذوو الاختصاص على أنَّ إدارة الموارد أهم من الموارد ذاتها كما أنَّ أية خطة للتحول الاقتصادي (الإصلاح اقتصادي) لابد أن تقوم على تفعيل توليفة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية بغرض تحسين استخدام هذه الموارد ورفع كفاءتها على المدى المتوسط والطويل لاستعادة التوازن المالي الداخلي والخارجي من خلال إزالة التشوهات في قطاعات الاقتصاد المختلفة (الإنتاج والعمل، والإدارة)، وتعزيز المنافسة وتخفيف البيروقراطية الإدارية، بما يُؤدي إلى تحسين وضع ميزان المدفوعات واستعادة الجدارة الائتمانية التي تتطلب إجراءات وسياسات معينة تضمن وجود طلب محلي كلي يوائم تركيبة العرض الكلي ونمو قابل للاستمرار مع توسع القاعدة الإنتاجية وتوفير فرص العمل.
إنَّ نجاحنا في المرحلة المُقبلة من عمر الاقتصاد العماني مرهون بالمرحلة الحالية التي تتطلب تكثيف استخدام السياسات الاقتصادية المالية والنقدية والتجارية وغيرها لمُعالجة تشوهات عناصر وعوامل الإنتاج الأربعة المعروفة والتي لا تستقيم أية معادلة تنموية بدونها، حيث تشير الدلائل في هذا الشأن إلى وجود ضعف في جاهزية عناصر الإنتاج لاستحقاقات المرحلة القادمة. فعلى صعيد رأس المال (تحتاج مصادر رأس المال إلى مُعالجات عميقة وتتمثل هذه المصادر في الميزانية العامة، القطاع المصرفي المحلي، شركات القطاع الخاص والاستثمار الأجنبي المُباشر).
وعلى صعيد العنصر الثاني وهو سوق العمل تميل كفة الميزان إلى صالح العمالة الوافدة، والإنتاجية للعمالة في السلطنة بالسالب، والاعتماد الكبير على عمالة متدنية المهارة، وتتركز 85% من العمالة الوافدة في ثلاث جنسيات تصنف عالمياً بأنها أقل الجنسيات ميلا للاستهلاك والإنفاق، كما أنَّ مساهمة المرأة في سوق العمل متدنية. وعلى مستوى العنصر الثالث وهو الأرض وما تزخر به من موارد طبيعية ومساحة شاسعة وموقع جغرافي وما يتوفر بها من بنية تحتية وقدرات وطنية فإنَّ كل ذلك يحتاج إلى أطر جديدة لاستخدامه الاستخدام الأمثل. أما العنصر الرابع والأهم فهو الإدارة، والإدارة بمعناها الواسع التي تتطلب إيجاد منظومة قادرة على الفهم الشمولي للمُتغيرات وتشغيل قاطرات التنمية المحلية من خلال ربط عناصر القوة والموارد والإمكانيات والفرص المحلية واستجلاب ما يلزم من العالم الخارجي لصناعة المُستقبل وتحقيق التحولات المنشودة
بالمُقابل تركز السياسات العامة لتحقيق مبتغاها على التأثير في سلوكيات الفئات الأربع المعنية بتحقيق التنمية وتحريك الأنشطة الاقتصادية وهي: الأسر والأفراد (المجتمع)، والشركات (القطاع الخاص)، والحكومات (القطاع العام)، وأخيراً بقية العالم (البعد الدولي أو التجارة الدولية). وتستفيد من مجموعة واسعة من الأدوات للتأثير على مسار الاقتصاد. منها على سبيل المثال لا الحصر: السياسة المالية حيث تتمثل هذه الأدوات في أدوات الإنفاق العام وأدوات الإيرادات العامة (الضرائب) وفي حالة السياسة النقدية تتمثل في أدوات مباشرة تعمل من خلال وضع قيود مباشرة سعرية (على أسعار الفائدة) أو كمّية (على بعض أصول البنوك أو التزاماتها أو رؤوس أموالها). وأدوات غير مُباشرة: تستهدف التأثير على حجم السيولة المحلية من خلال آليات العرض والطلب في سوق ما بين البنوك. وفي السياسة التجارية من خلال مجموعة من الأدوات التي تتخذها الحكومة للحد من الواردات أو لتشجيع الصادرات. ومن أدواتها: التعرفة الجمركية، الحصص (وضع حد أعلى لكمية الواردات من سلعة أو دولة مُعينة لكل فترة زمنية)، الإعانات (إعانات للمنتج المحلي لكي ينتج سلعاً تحل محل المستوردات، أو كي يُطور ويحسن إنتاجه ويقوم بالتصدير) وغيرها. وتعمل السياسات التجارية مع سياسات الاستثمار على تحسين معدل الإنتاج والتبادل التجاري.
إنَّ هذه الترابطات مجتمعة للسياسات الاقتصادية ستؤطر الدور المهم لإعادة زخم النمو خاصة ونحن بفضل الله بلد شاسع المساحة غني بموارده الطبيعية والبشرية والتاريخية والمكانية ولا يزيد عدد مواطنيها عن 2.7 مليون فقط. كما أنَّ مواصلة النمو والمحافظة على مستوى المعيشة الحالي في سلطنة عمان أمر مُمكن في ظل توفر العديد من المقومات والفرص والموارد البشرية الشابة والموارد الطبيعية ووجود البنى الأساسية والموقع الجغرافي المتميز.
إلا أنَّ الاستفادة من هذه المقومات والممكنات لا يمكن أن يكون فعلاً تلقائياً وإنما استجابة لمتطلبات وأدوار، وما نحتاجه من الفريق الجديد هو خطة إصلاح اقتصادي واضحة المعالم وتدخلات بسياسات عامة واضحة تمس جميع عناصر الإنتاج الأربعة المعروفة وأدوار اللاعبين الأربعة لتحقيق عملية التنمية.
ولا مناص أن تقوم هذه السياسات الاقتصادية المختلفة بدورها الشمولي والمُتزامن باتساق تام لتحقيق تحولات "رؤية 2040"؛ فصناعة المستقبل الذي ينشده الجميع لن يتحقق بدون التعامل مع المشكلات والاختناقات والممارسات الخاطئة والفهم المنقوص للواقع الاقتصادي والاجتماعي وبدون أدوات وسياسات أثبتت نجاعتها في العديد من الدول. كما أنَّ إنكار الواقع الجديد والتأخر في اتخاذ القرارات في هذا المسار بتدابير حازمة سيُفرز تحديات جديدة في وجه الانتقال إلى مرحلة وطور تنموي جديد هو حق أصيل اليوم لعُمان وأبنائها.
وختاماً.. الجميع ينظر إلى إعادة هيكلة الحكومة بإيجابية مطلقة، وتمثل التغييرات والتعيينات الإدارية الأخيرة حجر الأساس في ضخ دماء جديدة في الفكر الإداري والتنفيذي والاقتصادي، حيث وضع جلالة السلطان- حفظه الله- ثقته الغالية في شباب الوطن لقيادة المرحلة المقبلة، لتحقيق تطلعات أبناء الوطن ليبقى عمان عزيزاً منيعاً. ويجب علينا جميعاً، تقديم كافة أشكال الدعم والمساندة للقيادات الجديدة التي نبارك لها ثقة المقام السامي ونتمنى لهم التوفيق في تحمل مسؤولياتهم الجسام برؤية عنوانها الصمود والتحول. فقد تقيّد أزمة كورونا وتداعياتها المالية والاقتصادية أيدينا ولكن يجب ألا تقيّد عقولنا عن التفكير لإيجاد الحلول واغتنام الفرص التي تتيحها مثل هذه الأزمات وإتقان فن إعادة تدوير الأزمة والاقتصاد.