عبيدلي العبيدلي
تأسيساً على ما أشرنا له في الحلقة الأولى من هذا المقال، ولكي يكون منهج التحليل الهادف إلى تحديد الجهة التي تقف وراء ذلك العمل الإجرامي الذي ألحق تدميرا غير مسبوق بأي عاصمة عربية أخرى من قبل، بل ربما عالمية، ينبغي خلط العوامل الثلاثة: السبب والمستفيد والمنفذ (بضم الميم وكسر الفاء)، في آن، وبشكل مشترك، وصهرها في بوتقة واحدة، كي يتسنى لصاحبها الخروج بالنتائج الصحيحة المطلوبة.
ويقتضي الأمر هنا، أن تكون نقطة البداية قادرة على المزج المبدع بين ما هو موضوعي محض خارجي، لا يمت للضحية أو جلادها بصلة بشكل مُباشر من جهة، وبين الذاتي الذي يحصر المسؤولية في، واحد منهما أو في الإثنين معاً من جهة ثانية. دون أن يعني ذلك أن تكون تلك المسؤولية متساوية، بشكل خطي. فمدارات المزج معقدة، وذات أبعاد متعددة، تفرض على من يلجأ لها الأخذ بمنهج تفكير النظم، أو التفكير الشبكي. فكلاهما أفضل عند معالجة مثل هذه المسائل من نظيرهما التفكير الخطي.
أول تلك العوامل التي ينبغي وضعها تحت المجهر هو الرد على السؤال الأكثر إلحاحا: ما هو السبب؟ ولضمان أن تتمتع نتائج تشخيص الأسباب بالصحة والدقة المطلوبتين ينبغي تصنيفها وفق فئتين. الفئة الأولى، هي النابعة من ظروف خارجية. ومن ثم فالسبب الذي يعود إلى الظروف الموضوعية التي تحيط بموقع الحدث، سواء كانت الإحاطة تمس من تولى تنفيذ الجريمة أو ذلك الطرف الذي كان ضحيتها. فربما تكون هي، أي تلك الظروف الموضوعية، أحد الأسباب التي تحيط بها من يتحمل مسؤولية تهيئة مسرح الجريمة التي أدت إلى تلك النتائج التي كانت السبب وراء ذلك الحدث. أما الثاني، فهي الذاتية، بمعنى تضافر ظروف المجرم والضحية الذاتية، كي تقود إلى ما تعرض له مرفأ بيروت من جريمة.
المنطق الموضوعي يفرض نفسه، ويلقي بالمسؤولية، وإن لم يكن بشكل متساو على طرفي العلاقة: من نفذ الجريمة، ومن كان في موقع ضحيتها. فربما تكون الظروف الموضوعية لكل منهما على حدة، أو جمعتهما بشكل مشترك، هي التي قادت إلى ما قادت إليه. وشكلت السبب المباشر وراء تحول الضحية إلى عنصر ملائم لمن كان يتربص بها كي يتولى تفاصيل التنفيذ.
فأحداث التاريخ مملؤة بإثباتات تؤكد أن الظروف الموضوعية المحيطة بواقعة معينة، سواء منفذ الجريمة، فتدفعه، وبشدة، وسرعة غير منطقيتين نحو القيام بما قام به، عندما يرى ضحيته المستهدفة قد بلغت الحالة الناضجة التي تجعل منها الهدف المناسب لعملياته الإجرامية السياسية منها أو العسكرية. دون أن يعني ذلك أننا نبرر له ما ارتكبه من جريمة. فمن غير المستبعد أن تكون ظروف ذلك المجرم الموضوعية ترغمه، بوعي أو بدون وعي إلى القيام بما قام به، دون أن يخلي ذلك ذمته من عواقبها.
وعلى نفس القدر من المسؤولية، وعندما نشير إلى الظروف الموضوعية عوضا عن الذاتية، عند محاولة إلقاء المسؤولية من على كاهل المتلقي. يمكننا القول عند تناول الحالة اللبنانية المعاصرة، أن الظروف الشرق أوسطية المحيطة بلبنان، والخطط التي ترسمها القوى العظمى، الإقليمية منها والعالمية، التي لا تكف عن مساعيها لإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط، بما يخدم مصالحها، ويحمي حلفائها، قد وجدت في الساحة اللبنانية "الخاصرة الرخوة" المثالية التي يمكن التسلل من خلالها لإصابة الجسم العربي الأكبر.
ومن المنطلق الموضوعي، لا يتحمل لبنان، وهو الضحية المباشرة، المسؤولية المباشرة عن تحوله إلى هدف مباشر، يكون نقطة انطلاق نحو ترسيم معالم مشروع أكبر يشمل منطقة الشرق الأوسط. هذا لا يعفي لبنان من المسؤولية الذاتية التي ساهمت في موضعته في موقع مغر للجهة التي تقف وراء التفجير، كونه المنطقة الأكثر ملاءمة، ومن ثم سهولة كي يقوم المعتدي بتنفيذ العملية.
وفي سياق البحث عن الأسباب أيضا، ننتقل إلى الذاتي، ومسؤوليته عن التنفيذ أو التلقي. بمعنى أن تكون الظروف الذاتية للمنفذ ترغمه، وتضعه أمام خيار واحد لا يملك سواه، وهو أنه كي يتحاشى أزمة داخلية ذاتية، أو يحقق أهداف خارجية تخدم مصلحته الذاتية، يجد نفسه مدفوعا، وليس أمامه من ملاذ آخر سوى تنفيذ ما قام به، سواء ذلك الذاتي يمس طرفا لبنانيا داخليا، أو جهة أجنبية خارجية.
لكن عندما ننتقل للذاتي اللبناني، وهو الضحية في حالتنا التي نناقشها، من دائرة أوسع شمولية كي تُغطي لبنان ككيان سياسي، وليس فئة من إحدى فئاته، فيُمكن القول إنَّ ذلك الانفجار هو محصلة طبيعية ومنطقية للسياسات اللبنانية الذاتية التي ولدتها مسيرة ما يقارب نصف قرن من حروب، ربما تكون متقطعة ومحدودة، لكنها في الوقت متواصلة، ومترابطة، وتولد مجتمعاً يتناسب مع مثل تلك الحروب، ويلبي الاحتياجات التي ولدتها.
لقد مارست قيادات مكونات العمل السياسي اللبناني مجموعة من السلوكيات السياسية التي شكلت مجتمعاً مولدا مثاليا للجرائم، ربما لا تصل إلى مصاف الانفجار الذي عرفه مرفأ بيروت، لكن البيئة التي تخلقت بفضل تلك السلوكيات لا تحول دون وصول العنف إلى ذلك الذي هزَّ البنية التحتية للعاصمة بيروت من الجذور.
في النطاق ذاته، وعند محاولة تشخيص الأسباب التي ولدتها الضحية كي تكون في مرمى المنفذ (بضم الميم وكسر الفاء)، لابد من التوقف عند مجموعة من سلوكيات تلك الضحية أو إفرازات ذلك السلوك. نورد منها على سبيل المثال لا الحصر ما يمكن أن يوصف بــ "الفساد السياسي، والإداري، والمالي" المحيط بالقوى الحاكمة في بلد معين. ولبنان نموذجا حياً وصارخاً لفساد نظام معين من هذا الصنف، الذي من شأنه أن يولد أسباباً قوية يستفيد المنفذ، كي يصل إلى ما يصبو إليه.
وأخيراً ربما تكون الضحية هي السبب المُباشر والرئيس الذي يقف وراء وصول الأوضاع إلى ما هي عليه، إلى درجة لايجد المجتمع نفسه أمام خيار آخر، لحل تناقضاته الداخلية، سوى السير في تلك الطريق التي تقوده نحو إيصال واقعه إلى إفراز مثل ذلك الانفجار، أو آخر مشابه له.