الخريف الذي أفتقده

مدرين المكتومية

في مثل هذا التوقيت من كل عام، جرت العادة أن أقضي فترة مناسبة من الوقت تحت زخات الرذاذ في خريف صلالة الماطر والفريد من نوعه في أنحاء عُمان بأسرها، لكن ولظروف جائحة كورونا، لم نتمكن من قضاء أسعد الأوقات في ذلك الموسم السياحي بامتياز..

لكنني أتذكر جيداً الآن تلك اللحظات الرائعة التي أعيشها مع صديقاتي وعائلتي في هذا الخريف، لحظات تطير بي إلى الآفاق، فأجد نفسي أرفرف كحمامة تحلق في فضاءات لا متناهية.. اشتم رائحة المطر عندما يمتزج مع تراب صلالة المدهش، أُمعن النظر في اللوحة الخضراء من حولي، فكل شيء قد اكتسى بالأخضر، حتى الصخور الصماء، تحولت إلى لون النماء والازدهار. لكني وفي عمق تذكري، أجد تلك المشاهد تتلاشى رويدا رويدا، وأجدني أمضي بقوة نحو مُواصلة الكفاح في هذه الحياة، حتى تحول الواقع لديَّ إلى ما يشبه رحلة بحث طويل نحو شيء مفقود لا سبيل للحصول عليه أو الوصول إليه!!

أتذكر عندما أقف في الشرفة المُقابلة لبحر العرب، وأشاهد أمواج اليم تتهادى تباعا، فأرى الحياة بكل تجلياتها، إنها الطبيعة التي لا دخل للإنسان فيها.. صوت البحر، رائحة الزبد.. لون الأشجار.. طبيعة الأرض البكر، طبيعة تتجلى فيها عظمة الإله الذي خلق وأبدع، تجعلني أستشعر كل ما هو حولي بحب واهتمام. لكن أتذكر في الوقت نفسه، أننا وبسبب كورونا لم يعد بمقدورنا الاستمتاع بمثل تلك اللحظات، وهذا يجعلنا نقف أمام حقيقة يجب علينا إدراكها، وهي أن الفرص لا تتكرر، وعلينا أن نعيش كل لحظة وكأنها آخر لحظات العمر حتى نعيشها بسعادة مطلقة.

كنَّا في هذا الوقت من الزمن من العام الماضي بين من نحب وبين من يحبوننا، ننظم المُؤتمرات ونحضر أخرى، ونشارك في عرس الخريف بمختلف تجلياته الجميلة، لكن هذا العام اختلفت الحال، وانقلبت رأساً على عقب، وأصبحنا غير قادرين على أن نحرك ساكنا، بل وأُجبرنا على أن نتقبل كل شيء كما هو، فنحن نعيش مرحلة من مراحل الحياة باتت البشرية فيها مضطرة للعيش تحت نفس الظروف والمصاعب.

ورغم ما سبق، إلا أنَّ الحنين يستقطبني للهو والمرح مع الأصدقاء تحت رذاذ الخريف الذي يسقط على أجسادنا فينزلق وينساب، فهو رذاذ لطيف يداعبنا بلطفه وليس مطرًا شديداً يدخل الخوف في قلوبنا، أعشق الرذاذ لأنه هادئ وبسيط، أحب شعور سقوط الرذاذ على جسدي المُتعب كي أرتاح من عناء الحياة وقسوتها، أرى في الرذاذ حياة حقيقية بدلاً من تلك المزيفة التي نُضطر لقبولها في معظم أوقات العام. أتذكر أنني في الخريف كنت استمتع بالفرح والبهجة، كنت أجدُ الجميع في الخريف يبحث عن السعادة، ولو للحظات، فالسعادة ليست في كثرة المال أو تعدد العلاقات والأصدقاء، بل في اللحظة الحقيقية التي يشعر فيها المرء أنَّه يبتهج من أعماق قلبه.

شاءت الأقدار هذا العام، أن يأتي الخريف دون أن يستمتع به أحد، فكورونا حطَّم حياتنا الاجتماعية، وهدم أسوار المحبة والألفة بيننا وبين الآخرين، لم يرد لنا القدر أن نغادر أماكننا، أو أن نذهب إلى الأماكن التي نحب واعتدنا ارتيادها. إنِّه القدر الذي لا يمكن تغييره، هكذا قدر لنا البقاء في العاصمة مسقط، دون الشعور بكل تلك اللحظات الرائعة التي اعتدناها في هذا التوقيت من العام، لم يكن لنا أمل في أن نعيش أيام الخريف، ففصل من فصول السنة سقط من الذاكرة، ولم يعد لنا القدرة على استعادته.