دروس تفتيت الإمبراطورية العمانية التاريخية

د. عبدالله باحجاج

كلُّ من تابع الفيلم الوثائقي عن الإمبراطورية العمانية التاريخية الذي بثَّته قناة الجزيرة مؤخرا، سترتفع عنده وتيرة الإشكالية بين الدولة العمانية تاريخيًّا، والدولة العمانية المعاصرة؛ خاصة وأنَّ الفارق الزمني بينهما ليس ببعيد، وسيقف عند مجموعة مفارقات تاريخية مثيرة، والأخطر أنها قد تتكرر حديثا، وبعض مؤشراتها قد انكشفت خلال الثلاثة أيام الأخيرة، لكن الذي يهمنا هنا على وجه التحديد هو الدروس التي ينبغي أن نخرج بها من هذا التوثيق التاريخي.

فهُناك تساؤلات ينبغي أن تُطرح الآن؛ وهي: كيف لنا استيعاب الأسباب التي أدت لتفتيت الدولة التاريخية العمانية؟ وهل هي مُتعدية زمنيا أم حصرية على أزمنتها؟ لا بد من إعمال التفكير في هذا التساؤل في ضوء ما سيترتب عليه التطبيع مع الكيان الصهيوني من حالة استقواء إقليمي بالأجنبي بصورة غير مسبوقة، وهذا ما يَجعلنا نفتح ملف أسباب تفكك الدولة التاريخية العمانية من منظور التساؤل سالف الذكر.

علمًا بأنه كان ينبغي أن يفتح الفيلم الوثائقي العقول السياسية للتعايش مع واقع الجغرافيا السياسية القائمة، لكن هذا للأسف غير وارد، بل رأينا نجاح محاولات تحريك الجغرافيا السياسية في بعض مفاصلها الإقليمية من البوابة اليمينة؛ فهل ستعصي عليها الانفتاح على جغرافيات أخرى ضمن سياقات الامتدادات للجغرافيا المتحركة؟ وهل ستقف ضده المباركة الدولية؟!

كانتْ هناك فرصٌ مواتية إبان عهد المؤسس الراحل جلالة السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- لاسترداد بعض أراضي الدولة التاريخية العمانية خاصة في جُزئها الخليجي، والمطالبة بتعويضات مشروعة في جُزئها الآسيوي، غير أنه كانت له نظرة بعيدة المدى، استمدها من خلال مرحلة الصراعات والحروب التي شهدتها عُمان التاريخية "داخليا وخارجيا"؛ فلجأ إلى تأسيس دولة آمنة ومستقرة داخل حدود سياسية مُعترف بها، لكي يجنب المنطقة الحروب والصراعات، وتعيش في سلام فيما بينها، واستقرار وأمن وأمان لشعوبها، مُقدِّما في سبيل ذلك الكثير من التنازلات عن أراضي الدولة العمانية المعاصرة من أجل السلام، وفق قناعته بأنَّ كل شعوب المنطقة من أصل واحد، ولا يمكن الحديث عن أرض هنا أو هناك بين الأشقاء، أو أن تثير قضية الأراضي بين الأشقاء العدوات والخصومات.

فهل وصلت رسالة المؤسِّس؟ كان فكره فوق كل المراحل السابقة وحتى الآن، وفوق كل العقول السياسية وحتى الآن، فلم يُفهم نهجه السياسي ولا تطبيقاته على الأرض، فدخل الأشقاء في المنطقة في تجاذبات مع التاريخ بعد ان حسمها المؤسِّس بإبرام اتفاقيات حدودية مع دول مجلس التعاون وإيران وباكستان واليمن، ضاربا أروع الأمثلة على صدق نواياه السلمية؛ وذلك عندما منح الأرض من أجل السلام مع الأشقاء والجيران، لكنهم أخذوا الأرض، والبعض لم يَنْصَع للسلام.

وربما يكون قدر المنطقة بدولها وشعوبها أن تعيش في مثل هذه التجاذبات، حتى يقيض الله لها من يتقاطع مع فكر السلام، وحتى ذلك الوقت؛ فهناك مجموعة دروس للعُمانيين مُستخلصة من تجربة دولتهم التاريخية، وكلُّ من تعمَّق في أحداث الفيلم الوثائقي ستظهر له بسهولة، وهي الآن ينبغي أن تشكل الشغل الشاغل لنا كدولة ومجتمع معا، فالفيلم قد فتح لنا آفاقا تُعِيننا على تحصين دولتنا من التحديات التي تحدق بها من كل الاتجاهات الجغرافية بما فيها البحرية، وهى تحديات ستتعاظم وتتقاطع مع مرحلة تأسيس نهضة البلاد المتجددة.

فقد رأينا من خلال المصادر التاريخية الموثقة، دور المستعمر في تفتيت وتفكيك الإمبراطورية العمانية، وتفقير بلادنا، وتغذية الخلافات الداخلية، ورأينا كذلك التحالفات القبلية الإقليمية وتأثيراتها على انشطار جغرافية الدولة العمانية التاريخية، وهى أسباب قائمة الآن مع دوافعها التاريخية، وقد تبرُز للسطح الآن بعد الاستقواء الجديد بالأجنبي، بحيث بدا المشهد وكأن التاريخ ينسخ معطياته وسيكولوجياته الجيوسياسية، بل إن الدوافع أكثر من الماضي، والحلم بتحقيقها يتزايد كلما تلاقى البُعد الإقليمي مع البُعد الدولي، وهذا ما قد نشهده في حالة التطبيع مع الصهاينة.

فما طبيعة الدرس الأول المستفاد من تفتيت الدولة التاريخية العمانية؟ من الأهمية القصوى تحديده، فذلك سيعيننا على مواجهة تحديات الأطماع المعاصرة.

يتجلَّى هذا الدرس في المعادلة التالية: الوحدة الوطنية هي أساس استمرارية وديمومة وحصانة الوحدة الترابية لبلادنا، ولا يُمكننا صيانة الوحدة الترابية دون المحافظة على الوحدة الوطنية وتعزيزها.. وماذا يعني ذلك؟ يعني أنَّ الوحدة الوطنية هي الغاية التي ينبغي أن تشغل أولويات التنمية في بلادنا، وتعني كذلك أن مسيرة الإصلاحات الجديدة في بلادنا ينبغي أن لا تكون مجردة من هذه الغاية، بل مُحقِّقة لها ومعززة لأركانها داخل كل شبر من مسندم إلى ظفار، خاصة الآن بعد انكشاف تحديات جيوإستراتيجية وجيوسياسية، وقد تمكنت -كما أوضحنا ذلك- من تحريك الجغرافيا الإقليمية في بعض أجزائها المهمة في المنطقة.

أمَّا الدرس الثاني، فيتجلى في أنَّ الإمبراطورية العمانية ما كانت تتفتت لولا مؤامرات المستعمر، ونقض عهوده مع بلادنا، واستغلال الهوية القبلية وأطماع بعضها للانفصال، فهل نثق في المستعمر مجددا رغم الاتفاقيات الطويلة معه؟ هذا التاريخ يفرض على بلادنا أن تكون حَذِرة من أي طرف دولي أو إقليمي؛ انطلاقا من تلكم التجربة؛ فالأجندة الإقليمية قد تتقاطع مع البعد الدولي، وقريبا قد يبارك هذا البعد الأخير بل ويسعى لتحقيقه، خاصة وأن البعد الإقليمي قد استقوى به مؤخرا ويعمل من أجله وبالوكالة منه وعنه على تحقيق مكاسب جيواستراتيجية في المنطقة للسيطرة على الممرات المائية المتجهة إلى القرن الإفريقي الذي يطلق عليه الغرب "الشرق الأوسط الجديد".

وتحقيق هذه الأجندات، قد يستغل مرحلة الإصلاحات في بلادنا التي تترك وراءها آلاما اجتماعية واسعة النطاق دون حل منظور كالباحثين عن عمل والمسرحين وإحالة الآلاف للتقاعد برواتب ضعيفة ومحدودة، وهى تثير من الآن استياءَ الكثير من الشرائح الاجتماعية في ضوء تعقيدات المعيشة ومآلاتها المقبلة، مما قد يسهل على الخارج اختراق هذه البنيات، وتوظيفها لخدمة مشروعه التوسعي، وهذه حسابات قد يدخلها مستعينا بتجربة تفتيت الدولة التاريخية العمانية وأسبابها!!!

لن نستبعد أي احتمال صغير أو كبير مُعاصر في ضوء استلهامات تاريخ تفكيك الدولة العمانية التاريخية، فالسياسات المعاصرة تُبنى على أساس هذه الاستلهامات وفق رؤية مستقبلية مختلفة الأهداف والغايات. لذلك، يستوجب على بلادنا سد كل الذرائع وتحصين كل المنافذ، وعقلنة وإعادة تصويب السياسات والإصلاحات للتقليل من الاضرار داخل المنطقة الاجتماعية، وفق ما أكدناه سابقا أن الوحدة الوطنية أساس الوحدة الترابية، وأن الأطماع الإقليمية في الدولة العمانية المعاصرة هي نفسها الأطماع في الدولة التاريخية العمانية، وبالذات في أجزاء إستراتيجية منها، والبعد الدولي لا يمكن الرهان عليه لوحده، وإنما القوة الداخلية هى الرهان المستدام.

لذلك؛ يظل الحذر من الأطراف الدولية وعدم الثقة فيها مهما كانت عوامل الثقة الراهنة فيها، ومهما قدمت لنا من ضمانات مكتوبة، فلا يمكن اعتبارها مستدامة بالمطلق، ومسؤوولية المحافظة ومتانة الوحدة الوطنية هي سياسية بامتياز، ولا يمكن تحقيقها بالبراجماتية المجردة أو بترشيق المجتمع، ولا بمسايرة التطبيع بالتطبيع لكسب البعد الدولي، فالطرف الآخر أكثر تنازلا، ولن نتمكن من مجاراته، كما أنَّ هذا ليس مضمونا لبلادنا ولو في حدوده الدنيا، كما سيفتح الجبهة الداخلية بدلا من وحدتها؛ لذلك تظل القوة التي نعتمد عليها هي متانة الجبهة الداخلية.

هذه القوة مُرتبطة بإصلاح وتطوير المجتمع وفق منظور مدني وطني مُحكَم الأطر والمؤسسات والتشريعات حتى تكون مَرجعيته الداخلية داخل حدودها الوطنية، وهو بذلك سيكون أقل الصَّداعات السياسية من غيره، وهنا منطقة عصف ذهني يغلب عليها الطابع السياسي والأمني ولا بد على الجهات المختصة التوغل فيها "تحليلا واستشرافا، ومن ثم تنظيما".