السبب والمستفيد والمنفذ (1 -3)

عبيدلي العبيدلي

مفاجئا كان الانفجار الذي دمر مدينة بيروت أم متوقعا؟! لم يعد ذلك بالأمر المهم؛ فالنتيجة واحدة، وهو تدمير شبه كامل لواحدة من عواصم التنوير العربية، فقد مارست بيروت، حتى بعد أن ابتليت بالحرب الأهلية التي اندلعت في منصف السبعينات من القرن العشرين دورا نهضويا عربيا من الخطأ إغفاله أو التفريط فيه، بدلا من احتضانه والبناء فوقه.

ولربما يعود أحد الأسباب الكامنة وراء استمرار الحرب الأهلية اللبنانية وتنامي ذيولها وتداعياتها لما يقارب من نصف قرن، هو إصرار الفكر العربي على اللهث بحثا عن الجهة التي تقف وراء كل تفجير، بدلا من محاولة تشخيص الأسباب التي أدت إليه، أو معرفة الجهة المستفيدة من نتائجه.

ردة الفعل الأولى المنغمسة في معرفة من نفذ عمليات التفجير المتكررة والمتلاحقة التي دمرت لبنان قبل بيروت، تندرج تحت ما يعرف باسم "الذهنية الخطية"، أو "التفكير الخطي" في معرفة الأمور.

والتفكير الخطي، مقابل التفكير اللاخطي أو تفكير النظم، هو ذلك التفكير الذي، كما تعرفه المصادر المهتمة بنمطه، يصر على السير في "خط مستقيم من التفكير، وهذا يعني أنه يأخذ معلومات من موقف ويطبقها في مواقف مماثلة. وينطوي تعريف آخر للتفكير الخطي على الاستجابة لأحد الحوافز قبل الرد على التالي. ويُعتقد أن المفكرين الخطيين منطقيون ومنظمون، ويتفوقون في مواضيع مثل الرياضيات والعلوم"، لكنهم يتراجعون في مواقعهم عندما يبدأون في تحليل الظواهر الاجتماعية أو السياسية. وهو أمر منطقي عندما تقارن طبيعة الأسباب التي تكمن وراء تفاعل عوامل كل منهما على حدة: العلوم السياسية، مقابل العلوم والرياضيات.

ولذلك نجد أن التفكير الخطي، غالبا ما "ينطوي على الكثير من الجبرية والحتمية، التي تصادر حرية التنقل بين مكونات المشاكل (مدخلاتها ومخرجاتها)، وهو يقود أصحابه إلى حالة استلاب ومصادرة لقدرتهم على الإحاطة بتفاعل الأحداث ومعرفة طرق سيرورتها".

مقابل ذلك نجد التفكير اللاخطي هو الذي يرفض السير في خط مستقيم، ونلحظ- في كثير من الأحيان- أن من يأخذ به "يقفز من فكرة إلى أخرى، على عكس المفكر المنطقي والخطي. وعادة ما يكون أداء المفكرين غير الخطيين جيدًا في الفنون ويميلون إلى أن يكونوا أكثر تجريدًا". ولذلك نراهم أوسع خيالا، مما يساعدهم على تقفي أثر الأسباب ومنطقها، ومعرفة المستفيد من الأحداث بعد سبر اغوارها.

وينجح المفكرون غير الخطيين أكثر من نظرائهم الخطيين عندما يتعلق الأمر بتحليل القضايا السياسية والاجتماعية، ولذلك نجد "التفكير اللاخطي غالبًا ما يؤدي إلى نتائج إيجابية، على الرغم من أن وسائل تحقيق النتائج قد لا تكون دائمًا تقليدية".

هذه مقدمة مقتضبة كان لا بد من التوقف عندها قبل الخوض فيما جرى في لبنان، وعلى وجه التحديد عند مراجعة معظم التحليلات التي خرجت لحظة الانفجار الذي هز أركان بيروت ودمر جزءا كبيرا من بينيتها التحتية، وتحولت المدينة إلى واحدة من المدن المنكوبة.

التفكير الذي سيطر على نسبة عالية من تلك التحليلات، ومن ثم سيطر على تفكير الغالبية من متلقيها، كان ينتمي إلى التفكير الخطي، أو أحد ضحايا القبول باستنتاجاته، التي غالبا ما تكون سريعة، ولحظية في آن. 

ولذلك وجدناه يركز مقولاته على البحث عن معرفة من الذي يقف وراء ذلك التفجير، مهملًا، وربما قافزًا، بوعي أو بدون وعي، على الأسباب التي قادت إلى الانفجار، أو معرفة الجهة المستفيدة من نتائجه، ومن ثم تداعياته في فضاء الواقع السياسي اللبناني، وربما بلدان محيط الدائرة الشرق أوسطية التي يمكن أن تتأثر به، بشكل مباشر أو غير مباشر.

وتحاشيا للترويج للنتائج التي فرضتها وسائل الإعلام التي تناقلت الخبر، والتي عبرت في معظمها، عن الوصول إلى الجهة التي تقف وراء ذلك التفجير، وحاكت حولها الكثير من الروايات التي لم تتجاوز الإشارة بأصابع الاتهام نحو هذه الجهة أو تلك، متحاشية بذلك النمط من التفكير الخطي، بل ومكرسة بذلك النهج، التفكير الذي يحصر نفسه في مثل هذه الدوائر البحثية الضيقة.

ولعل أول المثالب الذهنية التي يمكن أن يكون التفكير الخطي ضحية سهلة لها، هي فخ ما يمكن أن نطلق عليه "الأدلجة"، التي ترغم صاحبها على التخندق في إطار مذهب، أو عقيدة واحدة تقوده، بوعي أو دون وعي نحو التعصب، ومن ثم اللهث المرهق بحثا عن من وراء تنفيذ عمل ما، عوضا عن محاولة معرفة الجهة المستفيدة من وراء تنفيذه، أو الأسباب التي أدت إليه.

فالنقاش العلمي يجب أن يبدأ بتحييد كل هذه الحمولات العاطفية والذهنية، بل الأيديلوجية، من أجل تقليل آثارها. هذا لا يعني نفي احتمال تطابق، لكن في حالات نادرة، النتائج التي يمكن أن يتوصل لها النهجين الخطي واللاخطي. لكن بينما تكون الصدفة وحدها هي وراء الأول، يقف المنهج الأكثر شمولية وتعقيدا وراء الثاني.

فغالبا ما تخفي النتائج السريعة المباشرة التي يتوصل لها من يأخذ بالتحليل الخطي الصورة الكاملة فتشكل تلك النتائج جزءا من الحقيقة الشاملة. ومن ثم تحرف مسار من يحدق فيها عن الطريق التي توصل إلى النهاية السليمة، وتحول دون رؤية الصورة المطلوبة التي تقود إلى النتائج الأكثر قربا من الحقيقة.

فمن غير المستبعد أن تكون الأسباب أو الدوافع التي تجعل، وربما ترغم من يتولى التنفيذ، صغيرة، بل وتافهة، عندما تقارن بتلك الأهداف التي يحققها ذلك العمل المعني للجهة التي تقف وراءه، وسخرت قدراتها للتخطيط له كي يأتي تنفيذه على الوجه الأكمل، بما يضمن تحقيق الأهداف التي ترمي تحقيقها تلك الجهة، من خلال ذلك التنفيذ.

هذا يجعل تلك الأهداف الصغيرة، قادرة على حجب الصورة الأكبر عن عيني من يحاول التحديق فيها لمعرفة تفاصيلها، كي يتسنى له كتابة القصة كاملة التي تعين على معرفة الحقيقة التي يبحث عنها صاحبها.