القدوات الوطنية.. وصناعة القوى الناعمة

سعيد الشحري

التحولات الكبرى التي غيرت أحوال المجتمعات من الجهل إلى العلم ومن الغفلة لليقظة أو إن شئت من الإغراق في الذاتية نحو الفاعلية والانطلاق، كانت القدوات في كل ذلك وغيره حاضرة بالفكر إما منتجة له أو مبشرة به.

فعندما نكون أمام إرادة تسارع خطاها نحو التقدم وتحديد المصير وتبذل في سبيل ذلك ما تطيق ولا تطيق، حينها علينا صناعة وإعداد القدوات الوطنية وإفساح المجال لها لتمارس دورها وليس أدل على ذلك من قدرتها على تحريك فضول العامة ورفد مداركهم، فالإنسان جبل بطبعه على التقليد والمحاكاة لأنها بشكل أو بآخر تلبي لهم إحساس المغامرة ويرون أحلامهم قد جسدت في تلك القدوة، بل إن موضع الترجيح هنا سيتمنون أن يكونوا جزءا من الحلم الوطني الذي نسعى له جميعا. فلك أن تتصور أن حوالي 70% من القيم والمهارات يكتسبها الطفل من خلال تقليد من حوله، فكيف بنا ونحن أمام عالم يعج بكم لا حد له من المعلومات؟ نتفق مع بعضها ونرفض الكثير منها وقوالب جاهزة من البرامج والمواد الإعلامية المستوردة انتشرت كالنار في الهشيم مابين مستنكر لها ومابين الطفرة الهائلة في تقوية العامل الذاتي في التغيير.

لكن دعوني أتساءل لماذا نريد جيلاً من القدوات الناشطة؟ أليس حرياً بالبعض الدعوة لأن ينطوي مفهوم القدوة على الجميع ولا يقتصر التوجيه والبناء والتربية على طرف دون سواه؟

الحق أن صناعة القدوات التي أتحدث عنها هي في إطار مبدأ الفعل الموجه لقيادة واستمالة الرأي العام نحو رؤيتنا الوطنية أو قل بث حالة من الألفة بين حاضر الوطن وتحدياته وآماله وبين المستقبل وما يجب أن نكون عليه، بل في عصر تداخل فيه الداخل بالخارج وظهرت الحقائق عارية وصادمة عندما حل العبث مكان العقل وصيرورة التاريخ. وبالعودة إلى سؤال لماذا نريد القدوات باصطفائها وجعلنا للجميع عونا وسواعد للعطاء والرفد؟ إنما كنت مدفوعاً بسير العظماء وما مرت به البشرية في أحوال البعث والتجديد، فحينما ينفرد شخص عن سائر الأشخاص باستعداد للفعل أو ملكة فطرية للقيادة والتأثير فليس في نظري ما يدعو إلى العجب أو ما يستدعي الملام بل وجب وقوفنا على مسافة من الحكمة والتأمل والاستقراء لترتيب الأولويات مُقبلين غير مدبرين ومرابطين على العزم وصامدين أمام تقلباته.

فالقدوات محل حديثنا تملك من الأدوات ما ينهض بها للفعل واستوعبت الغايات ما يمكنها لتكون لساناً للحق وأشد ملجماً للباطل. ومهما يكن من أمر، أجد نفسي مبرأة من ظن البعض من تقليلي لدور مؤسسات شامخة وعصية عن التهميش كالأسرة والمدرسة وقنوات الإعلام وسياساتها، بل أراها تقف على ثغورها محمودة كأجمل ما يكون الحمد ومحطاً للثناء كأكبر ما يكون الثناء، دون أن نغفل التجديد والإصلاح وما يتطلبه من رسم للسياسات وبلورة للغة الخطاب ليتناسب وتحديات العالم المعاصر.

الحق أن صناعة القدوات المؤثرة ينبغي لها أن تشمل قطاعات متنوعة، كالتعليم والإعلام والخطاب الديني الجامع وقطاع التقنية والذكاء الاصطناعي بل في الفنون ومنظومة الاجتماع بسائر عمومها، مراعين بين هذا وذاك قوة المعرفة والفئة المخاطبة ولنحيط أمننا القومي بسياج من حديد وعقل من نور وإرادة على الفعل الحضاري لا تعرف الهوادة وحدود المستحيل، فالأمم تقاس بعقولها المفكرة وتفتحها على الحوار واستعدادها للتضحية بأهواء النفس وتعاضدها في ساعة الملمات، وحضور قاداتها بحكمة القرار وتدبير الأمور وهي هبة ربانية لبلدنا في الوقت والحاجة.

لا أخفيكم سراً لو قلت إنَّ هذه القضية أرقتني وأخذت مني كل مأخذ وبلغت من الأذى النفسي ما يتركه الإحباط وخيبات الأمل في النفس بل وأتصور أنَّ صدوركم لن تضيق بما قلت وربما تعرفون عنها أكثر مما أعرف فلا نحن قادرون على الصمت ولا نحن قادرون على الكلام، لاسيما ونحن نرى بلداناً تهاوى عقدها الاجتماعي وتختفي من الوجود فعلا وقدوة، عندما تسلق منابرها دعاة الفرقة وأرباب الضلال، ففي الوقت الذي تنسحب فيه القوى الناعمة وتتوارى عن المشهد، ثق تماماً أنَّ البديل الآخر وإن لم يعلن عن نفسه في النهار ستبقى شياطين أفكاره تنتظر غفلة من الزمن للظهور، والرهانات على الوعي العام في ظل تداعيات هنا وهناك ومابين مصالح تنتزع وحدود تستباح أرى فيها مُخاطرة قد لا ندرك نتائجها على الأقل على المدى المتوسط والبعيد.

لذلك كان لزاماً على القدوات الوطنية المؤثرة أن تتمثل الصبر وصنوف المعرفة وسحر الكلمة وصدق النوايا والدربة على مجاراة العقول والألفة مع القلوب والدعم الأكيد من غير مراوغة بل أن تشعر الطرف الآخر أنك تقاسمه النجاح والتطلعات والمخاوف بكل حرية ورحابة صدر. ترى أتظنونني بالغت في الرغبة بشحذ الهمم وامتطاء صهوة المجد؟ أم تروني داعياً للوصاية على العقول لاختيار ما تشاء تحت وطأة السماوات المفتوحة وما يفتك بالشرق والغرب على حد سواء من أفكار ونوايا وطموحات للتمدد وفرص للبقاء ونزعة لبسط السيطرة والتأثير؟ ليكن بعضا من ظنكم أو كله أقرب للترجيح، وأبعد ما يكون عن التسرع والعجلة لكني آمل أن تكون هواجس الصمت وبواعث الشك مدعاة لإيجاد البدائل وبناء البيت من الداخل وهو ديدن حكومتنا الرشيدة التي لا يغيب عنها ما عبرت عنه خواطري وما تفيض معه أمنياتي الجياشة تجاه أعز ما نحب وأغلى مانملك وهو الوطن.