قضايا لا تنتظر التأخير

 

د. عبدالله باحجاج

عندما يتم الكشف عن تراجع الإقبال على الزواج مُقابل زيادة حالات الطلاق في البلاد؛ فهذه مُؤشرات تستوجب البحث عن أسبابها من جهة وربطها بالتحولات الاجتماعية التي تطرأ من جراء سياسات حكومية تستهدف المنطقة الاجتماعية دون دراسة آثارها على المُجتمع.. وهنا نطرح تساؤلات كبيرة تشكل مرجعيتنا لطرح هذا الموضوع؛ وهي:إلى أين يسير المجتمع؟ وهل لدى صناع القرار نتائج مسبقة أو حتى رؤية لبقاء قضايا دون حل منظور؟ وما هي علاقة تصاعد هذه القضايا بالمؤسسة الزوجية وهذه الأخيرة على مستقبل الأمن والاستقرار في البلاد؟

حديثنا هنا عن الأسرة التي يعتبرها علماء الاجتماع النواة الأولى والرئيسة في تشكيل هوية المجتمع، وكلما كانت الأسرة قوية كان المجتمع قوياً والعكس صحيح، والمجتمع يشكل أحد أركان الدولة الأساسية، فلا قيمة لاقتصاد قوي دون مجتمع مُتماسك ومرتبط بوطنه من حيث انتمائه وتمسكه بقيمه ومبادئه الثابتة، وما كشفته إحصائية للمركز الوطني للإحصاء مؤخراً عن تراجع الاقتران في بلادنا وزيادة حالات الطلاق، يحملنا على دق ناقوس الخطر على الأسرة، فهناك عوامل جديدة استجدت على العوامل التي انتجت التراجع عن الزواج وارتفاع حالات الطلاق خلال عام 2019، وسيُشكل عام 2020 نقطة قياس تاريخية لا يُمكن الاستهانة بها.

ففي العام 2020، ازداد عدد الباحثين عن عمل، وغدت قضية تراكمهم تشكل القلق المرتفع، وكذلك برزت قضية المسرحين كظاهرة غير مسبوقة، وأحيل الآلاف من الموظفين الحكوميين للتقاعد بصورة إلزامية وفجائية، ووجد هؤلاء الآباء أنفسهم مع أبنائهم الباحثين عن عمل والمسرحين من الشركات عالقين في بيوتهم براتب تقاعدي متفاوت القيمة من شخص آلى آخر، لكنه في أغلبه لن يُؤمن احتياجات الأسر الأساسية فكيف إذا أضفنا إليها الآن حمولات الباحثين عن عمل والمسرحين وزيادة أعباء تكاليف المعيشة على الأسر من جراء السياسات المالية الإصلاحية الجديدة.

لذلك، فالتداعيات الكبيرة، ستظهر في عام 2021 عندما تبدأ مرتبات التقاعد بشقيها القديم/ الجديد عاجزة عن تأمين أساسيات معيشة الأسر.. فما مستقبل المؤسسة الأسرية؟ وما مستقبل إقبال الشباب على الزواج؟ الإجابة على التساؤلين قد أصبحت واضحة الآن مقارنة بتداعيات عام 2019 رغم أنَّه أقل ضررا على معيشة الأسر، ورغم ذلك تفاجأنا بعدم الاقبال على الزواج وبزيادة حالات الطلاق خلال هذا العام.

جاءت محافظات مسقط وشمال الباطنة وظفار في المراكز الثلاثة الأولى على التوالي: 912 و697 و617 حالة طلاق، وهذه أعداد كبيرة، انتجتها ظروف متعددة، وقلقنا التالي من إنتاجات قضايا الباحثين عن عمل والمسرحين وتقاطع تقاعد الآلاف مع أبنائهم المسرحين والباحثين، فهل سيفكر الباحث عن عمل في الزواج بعد تراجع راتب أبيه بسبب التقاعد؟ حتى لو وجد الباحث عملاً، فراتبه لن يمكنه لوحده من الزواج دون مساعدة الأب، فكيف بالحال، وهو لا يزال باحثاً، وراتب أبيه يعجز عن الوفاء باستحقاقات المعيشة الأساسية؟

لا يُمكن التقليل من السبب المالي في هذه القضية بشقيها الزواج والطلاق خاصة خلال المرحلة المُقبلة إذا لم نحل مشكلة الباحثين عن عمل والمسرحين سريعًا، مع التسليم ببقية العوامل الأخرى، كالثقافة الزوجية والواعز الديني.. إلخ لكن السبب المالي سيكون المؤثر الأكبر والشامل على الجيل الذي ينتظر حقه في العمل والبعض منهم يتجاوز العشر سنوات انتظارا للوظيفة وربما أكثر، فماذا نتوقع من استمرارية أسر المُسرَّح الذي وجد نفسه فجأة دون دخل؟ والتداعيات المحتملة قد تتجاوز المجال الاجتماعي لتدخلنا في تقاطعات أمنية وسياسية في ظل تحديات خارجية، إقليمية وعالمية، لا يمكن مواجهتها إلا بجبهة داخلية قوية.

ولا يُمكننا الحديث عن جبهة "المواجهة" إذا ما ظلت قضايا مثل الباحثين عن عمل والمسرحين والأسر تحت وقع العوز الملح.. لذلك لابد من العمل على الأجل القصير على حل هذه القضايا، وأن تكون لها الأولوية نفسها لمسيرة الإصلاحات المتجددة، لأنها قضايا حساسة جدا، ولا تؤجل أبداً، لذلك نقترح الآتي:

تشكيل لجنة عُليا بصورة عاجلة تتكون من كوادر وطنية، أكاديمية ونخب من مجلس الشورى والدولة- سابقين أو حاليين- ومفكرين ومن القطاعين العام والخاص، من خارج منظومة التملق والاسترزاق والنفاق والمجاملة، ممن عرفوا بصراحتهم وجرأتهم، وغير متطلعين لمنصب أو جاه أو نفوذ أو مال، وتكون هذه اللجنة مرتبطة بالمؤسسة السلطانية على غرار اللجنة العليا التي تدير ملف كورونا؛ إذ إنَّ ملفات الباحثين عن عمل والمسرحين لا تقل شأناً عن ملف كورونا من حيث التداعيات.

ومن الضرورات التي تنتج الأمن والأمان للمرحلة الوطنية الراهنة والمُقبلة، أن يشعر الباحث والمسرح عن العمل بأنَّ هناك جهودا آنية ومنتجة للوظائف يمكن أن يُعلق بها آماله حتى لا يفقد الأمل عندما يكتشف في يناير المُقبل أن تقاعد آبائهم لم يكن هدفه إحلال أبنائهم محلهم، وإنما للتخفيف من ثقل موازنة الدولة ولأسباب أخرى.

لذلك.. لا بُد أن تقوم أن هذه اللجنة باستكشافات ميدانية لفرص العمل والإحلال بالتكامل مع الشركات والمصانع الكبيرة، على هذه اللجنة أن تزور المناطق الصناعية والمناطق الحرة والاقتصادية والشركات الحكومية والخاصة، وتحصر الوظائف المستهدفة فيها، وتقوم بعملية توظيفهم أو إحلالهم بصورة ممنهجة مع مراعاة التأهيل أو إعادة التأهيل حتى لو تدخلت ميزانية الدولة فيها، على أن يتم ذلك بالتوافق مع الشركات عبر تقديم حوافز تشجيعية.

وتظهر نتائج أعمالها فوق السطح دون شخوصها، ويكون هدفها الوحيد كسب واحتواء الباحثين والمسرحين، وما أكثر المصانع والشركات في بلادنا، فلو أخذنا المنطقة الاقتصادية بالدقم، فمنها ستنطلق عملية الاستكشافات، وفيها ستنكشف الكثير من الاختلالات التي يستوجب تصحيحها لصالح حق المواطن في العمل، فمشاركة الأجانب- حديثي التخرج- لفرص العمل المتاحة لأبناء البلد (تناولناها في مقال سابق) تقلل من فرص حل قضايا الباحثين والمسرحين.

وكذلك تكون من بين منطلقات هذه اللجنة المقترحة الأساسية، دراسة ملفات 135 ألف عامل وافد في بلادنا يحملون مؤهلات جامعية في القطاعين العام والخاص، منهم 53 ألفا في القطاع الحكومي، 41.5% يحملون شهادات جامعية و28% يحملون شهادة الدبلوم العام.

وهنا، نقول بكل صراحة، إن ربط ملف الباحثين والمسرحين بالنمو الاقتصادي وتركه لحركة الاستثمارات وفق "رؤية 2040"، دون الاعتداد بواقع الباحثين والمسرحين ومخاوف الانفجار، يحتم العمل فورا على معالجة القضية معالجةً جذرية؛ إذ إن الأعداد تتجاوز الآن 150 ألف باحث عن عمل، وفق تقديرات أحد أعضاء مجلس الدولة مؤخراً.

ولن تبطل الاحتقانات فترة الجمود ولا الآليات الراهنة لعمل المركز الوطني للتشغيل، بل ستعجل بها، لذلك ليس أمامنا من خيار متاح الآن سوى هذه الآلية المقترحة على أن نترك حل قضية الباحثين الذين ستخرجهم مؤسسات التعليم خلال السنوات المقبلة للنمو الاقتصادي ولآليات عمل المركز الوطني للتشغيل، بعد إعادة النظر في كوادره وأطره. أما ترك القضية بتراكماتها لرؤية 2040، فهذا تهوين من حجم القضية ومخاطرها المتوقعة والمنظورة، فيكفي القول إنها تشكل قضية الوطن الأولى، لذلك لن تنتظر التأخير.. إنها رسالة عاجلة.