مدرين المكتومية
الغُربة كلمة ثقيلة نطقًا ومعنىً على النفس والروح، وما أشد الاغتراب إذا تزامنت معه ظروف قهرية وقيود تحد من الحركة، وعيد الأضحى هذا العام يحل علينا ونحن مُكبلين بأغلال فيروس لعين، لم يرحم صغيراً ولا كبيراً من أشواكه الحادة، فأخذ يبطش يمنة ويسرى دون مراعاة، فكانت النتيجة أن استفحل واستشرى وباءً، وأخذ ينهش في أجسادنا.
يأتي العيد هذا العام، وأنا أشعُر بالغربة داخل مدينتي، فرض عليّ كورونا البقاء في المنزل دون خروج، وبلا زيارات إلى الأهل والأقارب، حتى أبي وأمي حرمني منهما، حتى يرحل هو، إنه سجن انفرادي، الكل يلزم غرفته وداره، وهذا الحال يمر به ملايين البشر حول العالم، ممن أجبرهم الفيروس على البقاء في المنزل دون تواصل حقيقي مع أي إنسان.
إننا عندما نحيا في وضع اضطراري، دون أن يكون لنا خيار في أي قرار، تتفاقم أحوالنا النفسية، وفي ظل كورونا لم يعد لفكرة الاختيار أي قيمة، بقدر ما بتنا مضطرين لكل إجراء وقرار في كل تفاصيل حياتنا اليومية من أجل أن نظل في أمان من براثن هذا الفيروس، علينا أن نبقى بعيدين عمن نحب، ألا ننظر في أعين أحبائنا فنتلقى جرعة قوية من الطاقة الروحية التي تضيء أجسادنا وتشعل الحماس والعزيمة في نفوسنا، بتنا نخاف من أن نؤذي من يسكنون قلوبنا، ونبتعد قدر المستطاع عن كل الأفعال والسلوكيات التي كنَّا نعيش وفقها في السابق!
ولأنني كأيِّ شخص قدره البقاء في المدينة بعيدًا عن هدوء القرية البسيطة التي ترعرعت فيها، وسط الناس البسطاء، أشعر بحنين مُؤلم في داخلي، إنِّه حنين يسكن خلجات نفسي في تلك اللحظة التي بدأت فيها الكتابة، فالذكريات تتداعى أمام عيني وكأنها تشدني لفعل ما لا أقوى على الإتيان به.. حنين قادر على قلب كل الموازين، إنِّه كالحب.. تماماً يغير المبادئ، ويجعلنا نفكر عكس مصالحنا الشخصية.
الحنين للعيد، كحنين مريض للشفاء، حنين سجين للحياة، حنين طالب للحظة التخرج، حنين العودة للوطن بعد سفر طويل وغربة لم تتوقف.
العيد ليس أن احتفل بثوب جديد، بقدر ما هو ابتسامة أمي الصادقة، ولمسة يديها الدافئة على كتفي وأنا ارتمي في أحضانها الآمنة المطمئنة، العيد في سعادة أبي بوجودنا حوله وابتسامته الرقيقة التي تظهر أسنانه البيضاء، وتحرك عضلات وجهه ليرتسم على جبينه سعادة لا توصف. السعادة في مشاهدة عراك أخواتي على ريموت التلفاز، وهن يتزاحمن على وجبة الغداء، وهن يجلسن معي في كنف الأسرة الكبيرة بعد صلاة العيد، والكثير الكثير من اللحظات التي لا تقدر بثمن والتي لا تصفها الكلمات، ولن يستطيع تقديرها إلا من يفقدها بالتأكيد. هذه التفاصيل لا يُمكن لذاكرة أن تنساها أو تتجاوزها مهما حصل، لأنها من اللحظات التي تظل خالدة طول العُمر، فنحن في مرحلة من مراحل الحياة لا نملك سوى الذكريات لنعيش بها ما تبقى من حياتنا.
نحن هنا في المدينة محاصرون، وهناك في القرية الصغيرة أغلى ما نملك، هنا في المدينة الخاوية بعد الساعة السابعة، نعيش فرادى خلف جدران أسمنتية عازلة للصوت والمشاعر والدفء، لا منفذ منها ولا مفر سوى نافذة صغيرة تطل على سكان آخرين أيضاً وجدوا في النوافذ والشرفات متنفساً لهم نحو الحياة..
أيعقل أننا وصلنا لهذه المرحلة التي نعيش فيها عكس المتوقع، وخلاف ما نريد ونتمنى؟ أيعقل فعلاً أن نكون مضطرين لأن نعيش تحت إمرة فيروس لا يدري كم الثمن الذي دفعناه لنحيا؟ وكم من شخص فقد من يحب؟ وكم من مصاب يُعاني على جهاز التنفس؟ وآخر يبكي عزيزاً له على سرير الموت؟ أهكذا الإنصاف؟! أهكذا عدالة الحياة؟!
لا نملك إلا أن نقول لله الأمر من قبل ومن بعد.
إننا إذا كنّا غير قادرين على أن نحرك ساكناً، فهكذا هي 2020 التي حلم بها الجميع، وعلقوا عليها كل ما هو جميل ورائع!! يا لها من مُفارقة قدرية، بكل سهولة أخذت هذه السنة منِّا كل ما هو رائع لتعطينا الآلام والأحزان والأوجاع والضغوط النفسية، وضعتنا في موضع يُشعرنا بالضجر والضيق.. أهكذا كانت الأمنيات، لا، ولا، وألف لا بصوت مرتفع، لكن القدر شاء أن يشد قبضته علينا، ويُغير أمنياتنا، ولا نملك سوى الدعاء بقلب مخلص صادق، بأن يزيح الله عنا هذه الغمة ويفرج ذلك الكرب الذي ألم بنا جميعا، وأن يصرف عنَّا هذا الوباء الذي قلب موازين العالم بأكمله، وأن ننجو بسلام وأمان نحن ومن نحب.