د. عبدالله باحجاج
عندما نفكر في عنوان المقال- وما أكثر التفكير فيه هذه الأيام- يسقط على الذهن التساؤلان التاليان: هل تتم الآن المُساءلة والمُحاسبة؟ وهل ستكون بأثر رجعي؟
وقد وردت المساءلة والمحاسبة وأردفت بهما النزاهة كثلاثية متلازمة مُعبرة لذاتها، ورسائل موجهة وقوية في حقبتنا السياسية الجديدة في خطاب تاريخي لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- في فبراير الماضي، وهو ما يعني أنَّ هذه الثلاثية قد أصبحت مطلباً سياسياً ملحاً، وقد جاءت هذه الثلاثية في سياق الكشف عن الملامح الجوهرية التي ستتأسس عليها النهضة العمانية المتجددة.
وإذا ما وسعنا دائرة تفكيرنا، فسنجد أنَّ المساءلة والمحاسبة قد أصبحت في الوقت نفسه من أهم حقوق المجتمع الآن، فالسياسة المالية الحكومية تستهدف جيوب المواطنين منذ منتصف عام 2014 من خلال الضرائب والتقاعد ورفع الدعم.. وهناك حزمة جديدة من الضرائب كضريبة القيمة المضافة، ستكون مؤلمة على المجتمع حتى لو طبقت بنسبة 5%، وهنا تظهر المساءلة والمحاسبة كحق اجتماعي عاجل مرادف للحق السياسي.
والأثر الرجعي للمساءلة والمحاسبة تشرعنه الكثير من الاعتبارات، أبرزها وجود ملفات عديدة لابد أن تفتح الآن، فهناك فترات مُعينة سابقة انتهكت فيها حرمة ثروات البلاد، وكذلك عدم مقدرة المجتمع على تحمل المزيد من الأعباء، فإلى متى سيكون المجتمع بمثابة بنك احتياطي للحكومة تلجأ إليه وقت الأزمات لإنقاذ الموازنة السنوية؟ والآن هذا البنك قد أفلس، وأصبح يمس مرتبات موظفيه- المتقاعدين والمسرحين- لذلك فإنّ الإسراع في تطبيق الثلاثية فورا وبأثر رجعي من حتميات التأسيس لضمانة السيولة المالية اللازمة دون اللجوء إلى القروض.
ولو أمعنا التفكير، واسترسلنا في العنوان أيضاً، فسيظهر لنا تداعيات أخرى تحتم المساءلة المحاسبة وبأثر رجعي وفورا، وهو توقف الكثير من المشاريع والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة نتيجة جائحة كورونا، وكذلك تخفيض عجز الموازنة بنسبة 91.5%. وهناك مسوغ آخر؛ وهو اللجوء الى الاقتراض لتخفيض عجز الموازنة، وهذا ستنعكس آثاره السلبية على المجتمع وعلى القطاع الخاص معا، لأنها ستمس الانتعاش الاقتصادي، وهذا بدوره سيؤثر على مشاريع القطاع الخاص مما يجعلنا نشهد حالات تسريح جديدة وتردي المستويات المعيشية.
وعندما نستحضر حجم تبرعات الأثرياء والشركات الكبرى للصندوق الذي تمَّ إنشاؤه لمواجهة جائحة كورونا، يعطينا حقيقة دامغة، وهى أن تضامنهم الطوعي مع الدولة والمجتمع لا يمكن الرهان عليه أبدًا، فأين مسوغات هذا الرهان، وتضامنهم مع حق الحياة للمواطن والمجتمع لم يسفر سوى عن ملايين قليلة؟ لولا العشرة ملايين ريال التي تبرع بها المقام السامي، لكانت مُساهماتهم المالية فضيحة تاريخية لتعاضد وتضامن الأثرياء والشركات الكبرى مع حقنا في الحياة، وكيف لو أضفنا إلى المسوغات سالفة الذكر، حجم الدين العام للسلطنة البالغ 15.8 مليار ريال عُماني في عام 2018 وفوائده السنوية؟
فمن اليقين أنَّ كل تلكم المعطيات لم تعد تترك لنا سبيل آخر غير المساءلة والمحاسبة الآنية وبأثر رجعي لتوفير السيولة المالية، وهناك اعتقادات اجتماعية بأنها- أي المساءلة والمحاسبة- قد بدأت، وإذا كان صحيحاً، فإنها تتم بهدوء. ونتمنى أن تتم عبر صورتين: الأولى الإقناع بالتضامن المالي حسب تاريخ النخب الاقتصادية في استنزاف ثروات الوطن، مع تقديم إعفاءات ضريبية معقولة لمن يبادر من تلقاء نفسه في التضامن المالي، والصورة الثانية؛ وهي تكمن في حالة عزوفهم عن التضامن الطوعي، عبر حملهم على هذا التضامن بالحجة السياسية مع التلويح بقوة القانون.
وقد أشرنا في مقال سابق منشور عبر جريدة الرؤية معنونا "القلق من المستقبل.. جلسات عصف استشرافية" إلى التحديات المالية المعقدة وانعكاساتها على الديموغرافيا وعلاقتها بالجغرافيا في مرحلة تأسيس النهضة المتجددة، وهذه التحديات تلح علينا للانتقال إلى عصر تنظيف الفرد والكيانات بأثر رجعي لاسترداد الثروات متزامنة مع ترشيق الدولة، ونرى أن عوامل نجاحها متوفرة ومضمونة، أبرزها سلطة سياسية جديدة تملك إرادة قوية للتغيير والإصلاح، ولديها الخبرات والخلفيات بالواقع العام المراد تغييره وإصلاحه.
وكذلك الإصلاحات الجديدة التي تهيئ نجاح مرحلة المساءلة والمحاسبة وتحقيق النزاهة – وقد أشرنا إليها في مقال سابق - وهذه مقومات أساسية لعصر النزاهة التي تحفظ ثروات الوطن وممتلكاته من السرقة وتعتبر طريقا ضامنا للاستدامة المالية والاستقرار الاجتماعي، وتعلي من شأن دولة الحق التي هي أسمى من دولة القانون، وهى تعني أن كل من يزعم "فردا أو جماعة طبيعية أم معنوية خاصة أو حكومية" أن لهم حقاً ما متنازع عليه، عليهم أخذه من القضاء العادل، وهذا سيتوقف على مدى استقلالية القضاء في النهضة المتجددة، وكذلك على وجوب إقامة المحكمة الدستورية التي ستنتصر للمبادئ الدستورية.
لذلك نرى أن كل الظروف مواتية للمساءلة والمحاسبة بأثر رجعي، وحاجتنا المالية الملحة تجعلنا لا نتردد فيها أبدا لضرورات إبطال مفاعل قضايا خطيرة مثل المسرحين، والبطالة، وعدم قدرة المواطنين على تحسين مستويات معيشتهم، والعجز الثنائي "الدين العام وموازنة الدولة" في ظل تحديات جيواستراتيجية غير مسبوقة، لن يستقيم معها تفكيك أو حتى التأثير على قوة بلادنا الناعمة التي هي أساس مواجهتنا مع مثل تلكم التحديات.
إنها ساعة تضامن الأثرياء مع الدولة والمجتمع كحقين متلازمين "سياسي واجتماعي"، وفعلا قد آن أوانها من قبل الأثرياء بعد أن مكّنهم الوطن منذ عصر الرخاء من تأسيس ثرواتهم، الكثير منهم من الصفر والآخرون من إمكانيات بسيطة، انطلقت بهم نحو قمم الثراء العالمي، والبعض قد استغل علاقاته وسلطاته ونفوذه في الثراء.. وقد آن الأوان لرد الجميل للوطن طوعا أو سياسيا، عوضًا عن امتصاص المجتمع، خاصة وأن المجتمع لم يعد بحوزته ما يمتص بعد السياسات المالية التي تستهدفه منذ عام 2014 وحتى الآن.