الانتقال من التعمين إلى التمكين (4-5)

ناجي البلوشي

انتهينا في المقال السابق عند وضوح المشكلة في بيئة العمل؛ لنبدأ مقالنا اليوم بما قامت به الحكومة؛ فهي بدورها مشكورة قامت بدور كبير في الاتجاهين، فرضت من خلاله القوانين الصارمة على الشركات لأجل خلق فرص عمل حقيقية للعمانيين، كما أنها وضعت خيارات متعددة للباحثين عن عمل في الحصول على ما هو مُناسب لهم من هذه الفرص كخيارات فرص التشغيل، وخيارات التدريب والدعم عند اختيار الباحث عن عمل لريادة الأعمال.. يأتي هذا بعد قناعتها بأنَّ المشكلة حلها في وجود فرص عمل متنوعة للباحثين عن عمل، مع خيارات متاحة، وبهذا الحل كان لها أن تعالج المشكلة الظاهرية إن كانت فعلا مشكلة حقيقية، لكنهم للأسف لم يتوصلوا بعد إلى المشكلة الحقيقية في نظري؛ فالإحلال وتعمين المهن والضغط على القطاع الخاص حل، لكنه ليس حلًّا للمشكلة، كما أنَّ الدفع بالباحثين عن عمل لريادة الأعمال حل لكنه ليس حلًّا للمشكلة.

القطاع الخاص بدوره تجاوب مع الحكومة وخطواتها استجابة مناسبة، لكنها ليست كافية في نظر الحكومة؛ فالحكومة تريد أن تنهي المشكلة برمتها بهذه الوسائل والحلول، هذا لأن القائمين عليها لا يزالون متمسكين بقناعاتهم بأن حل المشكلة هو وجوب زيادة فرص العمل ومسميات وظيفية شاغرة، ولا أدري إن كان بعد قراءتهم مقالي هذا سيعترفون بأنَّ المشكلة ليست هي؟ لأن الحل بعيد عن المشكلة الحقيقية.

أمَّا الحل الحقيقي في نظري لهذه المشكلة، فإنْ كانت تسمى مشكلة فإنه يكون في "الرغبة " من الطرفين: العارض لفرص العمل، والمعروض عليه فرص العمل، عندها ستختفي هذه المشكلة وتنتهي، ولبلوغ هذا الحل لابد من وجود وسائل حقيقية مُوصِلة لهذا الحل الدائم هذه الوسائل فلسفتها -استبدال الواقع بواقع آخر- كأنْ نقول عن الباحث عن العمل مبحوث عنه للعمل؛ فإذا أردنا أن تكون هناك زيادة طلب القطاع الخاص للعمانين، أو زيادة العمانين أنفسهم للالتحاق بمهن شركات القطاع الخاص، أو توجههم لريادة الأعمال، لابد من وجود الكثير من الأفكار الصانعة "للسوق"، والخروج من أفكار صناعة فرص العمل.

ولصناعة هذا السوق، سنحتاج الكثير من الشركات التي بها الكثير من خيارات فرص العمل للعمانيين؛ لهذا نبدأ أولا بالاستجابة لرغبات الشركات، وفيما ودها الحصول عليه من سلطة التشريع ليأتي دور المشرع أولا في الدفع بالمغريات الاستثمارية وفتح الأبواب لها؛ فزيادة أعداد الشركات (الكبيرة) في السلطنة يعني زيادة فرص الأعمال (السوق) هذه الزيادة لها جوانب إيجابية ستكون واضحة؛ منها: الحالة الاقتصادية التي ستُولِّد زيادة الطلب على شركات ريادة الأعمال عند العمانيين بشكل روتيني؛ لأنهم سيستفيدون من أعمال تلك الشركات استفادةً مباشرةً بعد توجيههم إليها. أما الجانب الآخر، فهو توظيفها للعمانيين لأنَّ بها من البرامج والسياسات القادرة على ذلك، حتى وإن بدأت معهم بالتدريب من أجل التشغيل.

ولأنني أرغب في استبدال منظومة التعمين وسياساتها المصاحبة لها، كان لابد من وجود خيار آخر مختلف عن التعمين، وهو خيار نطلق عليه التمكين، وهنا لا أعني أن نترك كل الخطط التي قامت عليها منظومة التعمين، ونستبدلها بمنظومة جديدة، بل نبني عليها منظومة جديدة نسميها التمكين، وما أقصده هنا الانطلاق إلى التمكين من نهاية التعمين؛ فالتمكين بمعناه هو مصطلح تسخير كل الأسباب في تمكين المواطن من الحصول على المهن والوظائف والبقاء فيها إن كانت في القطاع الخاص أو لحسابه الخاص، كما أنها هي في الوقت نفسه منظومة تمكين القطاع الخاص من شق أبواب الاستثمار في عُمان دون أي عوائق تعجيزية او منافسة مستترة، وزيادة دعم رغبته في الاستمرار مقارنة بالمحيط الجغرافي الذي نعيشه، فتغافلنا عن جانب التمكين بعد التعمين أو بعد استجلابنا للاستثمارات إلى أرض السلطنة، يعني أننا ندور في دائرة مغلقة، وعندها يتضح إخفاقنا في خلق فرص العمل وهو ما قد يُسبِّب لنا الكثير من الإشكاليات المستقبلية، وقد عايشنا مهنًا عُمِّنت من أجل التعمين، وانتهت مع مرور الزمن، وكأنها لم تكن يومًا ما قد نشرت في أحد القرارات الوزارية؛ فلا بائع في بيع المواد الغذائية ولا خياطات نسائية تعمل في هذه المهنة، ومثل هذه المهن هناك من الوظائف المكتبية والإدارية التي تستحدث في كل يوم دون تهيئة أو دراسة واقعية، أو حتى النظر فيما هو مناسب لها؛ مما يُربك حسابات المستثمرين ومدى بقائهم في السلطنة.

مولانا السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- في خطابه المؤرخ بتاريخ 23 فبراير 2020م، تفضل بالنطق السامي : "إن شراكة المواطنين في صناعة حاضر البلاد ومستقبلها دعامة أساسية من دعامات العمل الوطني"، وها نحن هنا نوصل له ما نراه من وجهة نظرنا مُناسبا للمرحلة، وبديلا مكملا لمنظومة التعمين؛ ليتناسب مع خطط ورؤى الحكومة في جذب رؤوس أموال الاستثمار إلى أرض السلطنة الحبيبة مع زيادة كبيرة في خلق فرص العمل للمواطنين.

فالتمكين والاستمرارية للقطاع الخاص سيخلقان فرصَ عمل مُتوفرة دائمة بشكل معتاد، وهو هدفنا المراد بلوغه، وقد قِسناه بمقاييس واقعية مطابقة للواقع الذي تعيشه البلاد ونهضتها؛ ليكون من ضمن خططنا وفروضاتنا العملية المشتملة على طابع من الشفافية، ولِتَكون ضامنا للعمانيين في بقائهم بالوظائف التي لا تنتهي مع كل أزمة اقتصادية، هذا هو النمط الحياتي الاجتماعي الاقتصادي الجديد دائم الروتينية والانسيابية في التوظيف واختيار الموظفين، دون تدخل حكومي في كل مرة.