د. سيف بن ناصر المعمري
تنطوي المُواطنة في أبرز جوانبها على العلاقة المسؤولة التي تجمع الفرد والمُجتمع، وتتطلب العمل على دعم المُجتمع والحفاظ على سلامته وصحته، وتماسكه وقدرته على مُواجهة مختلف الظروف والأوضاع، والحفاظ على حياة أفراده وموارده، ولذا فالالتزام قيمة مثلى من قيم المُواطنة الصالحة سواء كانت تجاه أفراد المجتمع بعضهم بعضًا، أو تجاه الخدمات العامة التي تُقدمها مؤسسات الدولة سواء كانت اجتماعية أو صحية.
فواجبنا أن نكون مواطنين فاعلين في استدامة هذه الخدمات ودعمها سواء كان ذلك عمليًا أو مالياً أو بتجنب الضغط عليها، وهذا الواجب يتعاظم خلال جائحة كوفيد- 19؛ حيث تقع مسؤولية كبيرة على الفرد المواطن في الالتزام بالتباعد الاجتماعي، وإظهار المُواطنة الصحية السليمة من التقيد بالتعليمات الصحية في الحركة من خلال غسل اليدين، ولبس الكمام في الأماكن المغلقة، وعدم الاختلاط في التجمعات التي تؤدي إلى زيادة انتشار الجائحة، وليس ذلك فقط بل الحرص على منعها من خلال التوعية، والنُّصح، والتبليغ عنها لو لزم الأمر، حماية لمجتمعه، والأرواح التي تهددها هذه السلوكيات المخلة بمتطلبات المواطنة الصحية، فالحق في الحفاظ على الأرواح الآن يفوق الحق في الحفاظ على الأموال والممتلكات العامة.
وللفرد المواطن أن يتخيل كيف يكون موقفه لو رأى أحداً يعتدي على ماله الخاص، هل سوف يظل مكتوف الأيدي، أم سيُبادر إلى منعه وملاحقته والإبلاغ عنه، فما بالنا بمن يُهدد حياة قطاع كبير من أهل مجتمعه نتيجة عدم الالتزام بأسس المُواطنة الصحية خلال هذه الجائحة؟
لقد ظهر خلال الفترة الماضية العديد من الأمثلة لعدم الالتزام بمسؤولية المواطنة تجاه أبناء المجتمع ومؤسساته، فالبعض أقام تجمعات العزاء، وآخرون أقاموا حفلات الزواج وأعياد الميلاد، وفئة ثالثة مضت في تجمعات عائلية مُتواصلة، وهناك من ضربوا عرض الحائط بقواعد التقيد بالتباعد الاجتماعي في الأماكن العامة ومؤسسات العمل، وذهب البعض في رحلات داخلية، وسدَّ كل هؤلاء أذانهم عن كل التعليمات والتحذيرات العالمية والوطنية لتبعات مثل هذه التصرفات؛ ولم ينظروا إلى العواقب الوخيمة لكل ذلك على مُختلف فئات المجتمع؛ فكانت النتيجة ازياداً في عدد الوفيات، حيث فقدت عوائل أحبائها، وتواصل عداد صعود الإصابات.
وتبعاً لذلك تنامى الضغط على العاملين في القطاعات الصحية، وتزايد التأثير على اقتصاد البلد وموارده، وعلى أقوات كثير من النَّاس الذين تقوم حياتهم على نشاط الحركة الاجتماعية، وربما يقود كل ذلك إلى تأخر العام الدراسي للطلبة الذين ينتظرون بلهفة تجاوز هذه الفترة للعودة سريعًا إلى مدارسهم، كما عاد غيرهم من طلبة بعض الدول التي التزم سكانها بالتعليمات والقواعد العامة في لحظات الطوارئ والأزمات الصحية، فهل أدرك الأفراد غير الملتزمين أي تهديد ومخاوف أحدثوها في حياة الآخرين من أبناء مُجتمعهم؟ وهل يدركون المثال السلبي للمواطنة الذي قدموه في لحظة كان إحداث الفارق يعتمد فيها على التزام الفرد بدرجة كبيرة.
منذ البداية كانت الدول واضحة أن الانتصار في معركة "كوفيد- 19" يعتمد بدرجة كبيرة على المسؤولية المشتركة بين الدولة ومُؤسساتها الصحية وبين المُواطنين الذي نقل لهم جزء من أسلحة مقاومة الجائحة على اعتبار أنهم مواطنين واعين ومسؤولين لهم حق العلاج والرعاية سوء كانوا عُمانيين أم غير عُمانيين ولكن يقع عليهم مسؤولية عدم الإخلال بالتعليمات والقواعد العامة لإدارة هذه الأزمة، فأصبح هناك تقاسم في سلطة الحفاظ على سلامة المجتمع؛ بحيث لا يتحملها طرف دون آخر، وبات العبور إلى وضع أفضل يعتمد على قيام كل طرف بمسؤولياته بدقة ومسؤولية والتزام، لأنَّ التساهل والغلفة والتهاون كما كانت تحذر منظمة الصحة العالمية وغيرها من الدول تكون نتائجها باهظة.
لقد رأينا أنَّ دول العالم التي نجحت في العبور إلى وضع أفضل كان بفضل وجود وعي والتزام كبير خلال فترة الحجر، وهذه رئيسة وزراء نيوزلندا أول الدول التي تظهر محاصرة وباء كورونا تمتدح التزام مُواطنيها، والتزامهم بمسؤوليات المواطنة الصحية. وتلك تايوان بالمشاركة والاستجابة المجتمعية الواعية تقدم نموذجًا في تقليل إصابات كورونا بين سكانها رغم أنَّ عددهم يصل إلى 24 مليوناً، فما بالنا ونحن بلد مُترامي الأطراف ومتباعد جغرافياً مع عدد سكان لا يتجاوز 5 ملايين نسمة، نصبح في الترتيب السابع على مستوى العالم من حيث نسبة انتشار الوباء إلى عدد السكان، أليست هذه نتيجة لم نتوقعها حين بدأ انتشار هذا الوباء في العالم؟ وفي الوقت الذي تعود أنشطة الحياة فيه لكثير من دول العالم ذات الكثافة السكانية العالية، نشهد نحن تصاعدا كبيرا في عدد الحالات؟
ألا يستدعي هذا مُراجعة كل فرد لالتزامه الصحي خلال هذه الفترة حتى يعزل تأثيره السلبي- إن وجد- في استمرارية هذا الوضع.
إنَّ المواطنة الصحية السلمية القائمة على وعي المُواطنين هي ما سيوقف هذا التصاعد في عدد الحالات لدينا؛ خلال هذه الفترة وخلال الفترة القادمة حيث لا أحد يعرف متى سوف تنتهي هذه الجائحة، وتبقى التعليمات التي أصدرتها اللجنة العُليا المكلفة بإدارة الجائحة هي المنطلق لتعديل المُعادلة؛ البقاء في المنزل، وعدم الخروج إلا للضرورة، ومنع الزيارات بين الأسر، وإلغاء أية تجمعات، وارتداء الكمامات، والحفاظ على نظافة اليدين، وحماية كبار السن خلال هذا الشهر كفيل بكبح جماح هذا التزايد خلال الشهر القادم؛ الكرة الآن في ملعب المُجتمع، والتقدم يعتمد على استعادة الوعي والالتزام. لذا لابد من تكثيف الوعي، من مختلف مؤسسات الدولة، ووسائل الإعلام، والفاعلين في المجتمع، شهر من الالتزام بالمواطنة الصحية سوف يحدث فرقًا كبيراً، وهذا ما شهدناه في كثير من الدول، علينا جميعاً أن نجتمع على غاية واحدة هي الحفاظ على أرواح الناس، والحفاظ على العاملين في القطاع الصحي، والحفاظ على موارد البلد ودعمها خلال هذه الفترة لكي تتمكن من مُواجهة هذا الوضع الاستثنائي من الضغط عليها..
إنَّ أفضل سؤال يمكن أن يوجه في نهاية المقال هو الذي طرحه وزير الصحة معالي الدكتور أحمد السعيدي عندما تساءل: ما ذنب المُلتزمين بالإرشادات بسبب عدم التزام مجموعات وفئات مما يزيد من عدد الحالات المصابة؟