عبيدلي العبيدلي
لقد جاءت جائحة كورونا كي تضع بين يدي دوائر عالمية مُعينة فرصةً ذهبيةً كي تستبق الأزمة المتوقعة، فتُديرها من خلال التخويف من أزمة قائمة، والاستفادة من ذلك لتمرير مشروعات ليست لها علاقة مباشرة بأي من الأزمتين: الاقتصادية المقبلة، و"الكورونية" القائمة.
وتأسيسا على ذلك، ليس انتشار جائحة كورونا من صنع البشر، كما قد يحاول البعض أن يثبت. لكنهم، أي البشر، وتحديدا بشر دوائر صنع القرار في الدول العظمى، وعلى وجه التحديد في الصين والولايات المتحدة، وربما دول عظمى أخرى، قرروا أن يستخدموا أزمة هذه الجائحة في إدارة دفة أزمة العلاقات الدولية. ومن هنا ينبع تفرد "كوفيد 19" عن سواه من الفيروسات الأخرى.
السمة الثانية التي تفرد بها فيروس كورونا، هي مناهضته، بشكل مقصود ومباشر، أو عفوي وغير مباشر على الجانب الاقتصادي لما أصبح يعرف باسم الاقتصاد المعولم، او اقتصاد العولمة، الذي بات يكرس دعامة رئيسة من دعائم العلاقات الاقتصادية العالمية، بل راحت تروج له مراكز التنمية العلمية في أسواق الدول النامية، او الأسواق الناشئة.
حيث وجدنا صناعة المعلومات وتقنية الاتصالات تنغمس في دورة إنتاج جديدة وغير مسبوقة على سبيل المثال لا الحصر. إذ نكتشف أن الهاتف الذكي الذي بين أيدينا تملكه شركة أمريكية مثل آبل، وتطور برامج تشغيله شركة برمجيات هندية أو كورية، ويتم صناعة الجهاز في الصين، وربما في دولة أخرى مثل فيتنام. ما يحكم قرار البلد المختارة هو تقليص الأكلاف، وضمان الجودة.
لكن أزمة "الكمامات" الصينية التي اندلعت مع انتشار كورونا، وما رافقها من عمليات قرصنة، وعدم تقيد مصانع إنتاجها بالمقاييس الواردة في عقود الشراء، والتحكم في الأسعار بفضل شبه الاحتكار المسبق، دفع العديد من الدول، بمن فيهم المروج لفلسفة البعد الاقتصادي للعولمة إلى التراجع عن موقفها، والعودة إلى الاعتماد على الصناعات المحلية، مهما كانت الكلفة المترتبة على ذلك، أو اللجوء إلى التحالفات الإقليمية المرتبطة بمجموعة من الاتفاقيات التي تحول دون تكرار ما جرى أثناء أزمة كورونا.
ولا شك أن مسارعة العديد من الدول، بما فيها تلك الصغيرة، إلى إغلاق حدودها أمام شركات الطيران والملاحة والنقل البري، حتى تلك القادمة من دول صديقة، كان في حد ذاته مؤشرا قويا على انكفاء العالم عن موجات الترويج للعولمة. ويشمل ذلك حتى تلك الدعوات التي يقف وراءها رواد الدعوة للعلاقات المعولمة المبنية، ولو شكليا، على العدالة والمساواة. لقد وجدنا أزمة كورونا ترغم الدول على إعادة النظر في كل دعوات ما يطلق عليه "الاعتماد المتبادل والتعاون الدولي".
هذا التفرد لا يعني أن الأمر سيكون مستمرا، ويؤدي إلى قبر مشروعات وبرامج العولمة الاقتصادية، لكنه، بدون شك دعا إلى إعادة التفكير فيها، وإلى تجاوزها أثناء أزمة كورونا الأخيرة، وهذا ما يجعل من أزمة كورونا تفردا يميزها عن جوائح أخرى عرفتها البشرية.
والذي يجعل من كورونا أزمة متفردة، أو بالأحرى جائحة متفردة، هو ذلك البعد السياسي، في العلاقات الدولية والذي فرضه وباء فيروس كورونا على خارطة تلك العلاقات. فقد أدخل كورونا نظام العلاقات الدولية القائمة في غرفة الإنعاش، بعد إصابته بالشلل شبه الكامل، هذا ما تلخصه وقائع ندوة عقدتها مؤخرا "الجامعة الأمريكية بالقاهرة تحت عنوان: (النظام العالمي: ماذا تغير بعد جائحة كورونا؟)". تحدث فيها أستاذ السياسات العامة ومدير مركز دراسات الهجرة واللاجئين بالجامعة الأمريكية بالقاهرة إبراهيم عوض، وأستاذ العلاقات الدولية والاقتصاد السياسي، ومؤسس ومدير منتدى الجامعة الأمريكية بالقاهرة بهجت قرني، جاء فيها، كما يقول عوض: "إن الولايات المتحدة غير قادرة وغير راغبة في قيادة الوضع الدولي وتحمل تكاليف تلك القيادة، وفي نفس الوقت الصين لا تستطيع قيادة العالم، (مما يجعل العالم اليوم) في وضع جديد تماماً، حيث لا توجد قوة مهيمنة شاملةـ ولكن توجد منافسة ذات طابع اقتصادي وليست ذات طابع عسكري مثلما كان الوضع مع الاتحاد السوفيتي. والكثير يقول إن أوروبا غير مهتمة بالدخول في حرب باردة مع الصين. فالدول الأوروبية لن تنساق بسهولة للصراعات ليس حبًّا في الصين؛ ولكن لأنَّ لديها مصالح".
هنا.. يتفرد كورونا، في حلة جديدة، تميزه عن نظيراته من الجوائح الأخرى، مثل إنفلونزا الخنازير على سبيل المثال لا الحصر بنشر ما يشبه الشلل الكامل في جسد العلاقات الدولية. إذ يتوقع بعض الباحثين في العلاقات الدولية من أمثال الباحث في معهد هوفر بكلية ستانفورد بالولايات المتحدة نيال فيرجسون، في مقال له نشره في صحيفة نيويورك تايمز، ونشر مقاطع منه الكاتب في جريدة "أخبار اليوم" المصرية، عامر تمام، يتوقع فيرجسون عودة ما وصفة بـ"الحرب الباردة الثانية"، لكنها كما يحدد معالمها فيرجسون، مختلفة عن تلك التي عرفها العالم بين واشنطن وموسكو في اعقاب الحرب الكونية الثانية. يؤكد فيرجسون في مقاله أن "الحرب الباردة الثانية، بدأت بالفعل، بين الصين والولايات المتحدة، مشيرا إلى أنها تختلف عن سابقتها مع الاتحاد السوفيتي. وعدد فيرجسون أوجه الاختلاف ومن أهمها: عدم وجود رغبة توسعية لدى الصين كما كان حال الاتحاد السوفيتي، أيضا الحكومة الصينية تنفق أموال الشعب على مشاريع البنية التحتية والاستثمارات الخاصة التي تحقق مصالح شعبها، ولا تنفقها على دعم دول أو جماعات مارقة. وأخيرا قال فيرجسون إنه رغم الجدال الكبير بشأن مبادرة الحزام والطريق، إلا أن هذه المبادرة تهدف في المقام الأول إلى تحقيق نفوذ اقتصادي وليس ثورة عالمية وتغيير للنظام العالمي. وخلص فيرجسون إلى أن الحرب الباردة الثانية لن تشهد مثلا أزمات مثل صواريخ كوبا بين أمريكا والاتحاد السوفيتي عام 1962، مشيرا إلى أنها ستقتصر على منافسة اقتصادية وتكنولوجية بين أول وثاني أكبر اقتصاد في عالم. لكن فيرجسون أشار إلى وجود تحديات كبيرة ستواجه الولايات المتحدة في هذه الحرب الجديدة؛ أبرزها: القوة الاقتصادية الكبيرة للصين التي تجعلها منافس قوي للولايات المتحدة وربما تتفوق عليها في بعض القطاعات، على عكس الاتحاد السوفيتي".
وهناك مظاهر أخرى انفردَ بها فيروس كورونا، لكن كان القصد التركيز على تلك الأبرز بينها، والأكثر تأثيرا على مسارات العلاقات الدولية.