ما بعد كورونا: دروس للخليج (3)

الحفاظ على الكيان الخليجي

د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري **

** كاتب قطري

ينبغي لجائحة مثل كورونا أن تُغيرنا حكومات وشعوباً: تغير أسلوب تفكيرنا، تغير ما في نفوسنا، ترتقي بمسلكياتنا، تدفعنا لتحسين أوضاعنا، توثق علاقاتنا كخليجيين، فما أصاب الخليج من تداعياتها وانعكاساتها السلبية على مُختلف مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والصحية كارثي، لا يُمكن تقييمه إلا بعد حين.

لعل أهم الدروس المُستخلصة، أنَّه لا عاصم ولا أمان ولا مستقبل لدول الخليج إلا بتكاتف وتساند مواطنيها، وتغليب المصالح العليا على المصالح الخاصة، وتعزيز مفهوم المواطنة المتساوية.

أثبتت دروس المِحنة أنَّ مقومات بقاء الهوية الخليجية واستمراريتها عبر الأجيال تتطلب تبني إستراتيجية خليجية عُليا تتجاوز كافة الخلافات الداخلية والبينية، تقوم على مرتكز أساسي هو: (إعادة الاعتبار للمجتمع المدني الخليجي) ليقوم بدور فاعل في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

كان المُجتمع الخليجي، قبل عصر الريع، مجتمعاً مُنتجاً نشطاً في (الحياة الاقتصادية والاجتماعية) متعاوناً ومتعاضداً، يسوده التكافل الاجتماعي والاعتماد المُتبادل بين أفراده، يتمتع بقدر من الاستقلال النسبي، يشارك في ترشيد القرار العام. استمرت هذه (الاعتمادية التاريخية) بين السلطة والمجتمع وفق (عقد اجتماعي) غير مكتوب، لكنه متوازن بين أهل السوق (الإنتاج) وأهل الحكم (السلطة)، حتى جاءت الطفرة النفطية، وتمَّ تفكيك الاعتمادية المتبادلة، وتهميش دور المواطنين إنتاجياً، وحل الريع محل الإنتاج، واستغنت الدولة الخليجية عن مجتمعها ثم ابتلعته، ليتحول المجتمع الخليجي النشط إلى (مجتمع الوارثين القاعدين) المعتمدين على مكانتهم من الريع وفتاته، طبقاً للمفكر القطري الفذ علي الكواري.

وتنفيذ هذه الاستراتيجية يتطلب خطتين رئيستين:

الأولى: إصلاح الخلل السكاني؛ إذ إنَّ الوضع السكاني الخليجي، وضع غير طبيعي، وضع استثنائي، لا نظير له بين دول العالم قاطبة (أقلية مواطنة) لا تشكل تياراً رئيسيًا مُؤثراً في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية مثل كل الدول الطبيعية، و"أكثرية وافدة" غير متجانسة ثقافياً واجتماعياً، تنتمي لجنسية أوطانها، وتتفاعل مع قضاياها، تعيش منفصلة قانونياً واجتماعياً وثقافياً عن بعضها البعض وعن المجتمع الخليجي وقضاياه.

هذه التركيبة السكانية "غير الطبيعية" جعلت الكواري، في بحث نفيس وفريد، يتساءل محتاراً: هل ترقى التجمعات البشرية المُقيمة في دول الخليج إلى مرتبة المجتمعات بالمعنى العلمي لمفهوم المجتمع؟

وينتهي إلى الإجابة بالنفي، كونها تفتقد عناصر أساسية بحسب مفهوم علماء للمجتمع، منها أن "الجماعة المواطنة" أقلية في وطنها، وغيرمُستقلة نسبياً في حياتها الاجتماعية، ولا يتوافر لها الحد الأدنى من مقومات الاضطلاع بدور التيار الرئيسي في مجتمعها.

وحتى تجمع "السكان كلهم" لا يشكلون مجتمعاً؛  فالأغلبية الوافدة، خليط اجتماعي إثني وثقافي بين مغتربين عرب وأجانب، يفتقد التجانس الثقافي والتساند الاجتماعي والقيم والتقاليد والتنشئة المُشتركة، لكل ثقافته الخاصة المنتمية إلى بلده، يفتقد التركيب المتوازن بين الرجال والنساء والأطفال كالمجتمعات الطبيعية، وإنما أكثرية ذكوريّة طاغية، لا يرتبط مستقبلها بالمستقبل الخليجي.

"معسكرات عمل" لا "مجتمعات"

لذلك يرى الكواري- وهو مُحق- أن مجتمعاتنا الخليجية أقرب إلى وصف "معسكرات عمل" منه إلى "مجتمعات".

ما العمل إذن؟!

على حكوماتنا الخليجية اتخاذ قرار حازم بالحد سريعاً من تدفق العمالة الهامشية، وترحيل من تبقى منها تدريجياً خلال فترة زمنية محددة، والتركيز على استقدام العمالة النوعية (كونها دولاً غنية) بدلاً من العمالة الكمية الكثيفة العدد، الفقيرة تعليماً ومهارة وأجراً، وفقاً للاحتياجات التنموية الضرورية للدولة والمجتمع. وينبغي التجاوب مع مقترح منظمة العمل الدولية بأن يكون "العقد" مرجع العلاقة بين العامل وصاحب العمل؛ بدلاً من نظام الكفالة (مصدر الفساد والإفساد والاستغلال والتجارة المُحرمة والمُجرمة وأكل المال بالباطل).

ومن ناحية أخرى، على دول الخليج تفعيل قانون العمل بجدية على شركات القطاع الخاص ومُراقبتها، خاصة فيما يتعلق بسكن عمالتها من حيث توافر الشروط الصحية والإنسانية.

المحصلة: أعيد تأكيد أنَّه لا مصالح خليجية حقيقية في بقاء هذا الكم الكبير من العمالة الهامشية التي تزحم العواصم الخليجية وتستنزف مواردها، بعد استكمال الدول الخليجية لمعظم مشاريع البنية التحتية والعمرانية.. وللحديث بقية.