صالح بن أحمد البادي
من الواضح أن الخطة الخمسية العاشرة 2021-2025، والتي ستبدا مع بداية العام المقبل، وستعتمد خلال هذا العام، ستحمل لنا مفاجآت طيبة في شأن مصادر تمويل الخطط الخمسية؛ وبالتالي الموازنات السنوية، أنا لا أتحدث هنا فقط عن العام 2021، لكنَّني أتحدث عن عُمر خطة خمسية تبدأ العام المقبل وتحملنا حتي العام 2025.
نتوقع أن مشاريع الغاز الجديدة ومشاريع المصافي القادمة التي ستبدأ إيراداتها بالظهور بدءًا من العام 2022، ومشاريع البتروكيماويات القادمة الضخمة كشَق سفلي لمشاريع المصافي وعائدات الاستثمارات التي ينتظر أن تتحسن العام المقبل وما يليه، وتتعافي تماما خلال ثلاث سنوات، وكذلك أسعار النفط التي نري أنها ستكون أفضل حالا من وقتنا الحالى مع بدايات العام المقبل والذي يليه، وكذلك المشاريع التي بدأت تضخ إيرادات بسيطة الخطة الخمسية الماضية يتوقع لها أن تضخ إيرادات ألعى لأن المشاريع ينمو صافي أرباحها كلما اقتربت من نسب إنتاج عالية تفوق الـ70% بشكل عام، وهذا سيجعل مصادر تمويل موازناتنا أفضل حالا وتوسُّعا وثباتا، ونقلل إلى حدٍّ ما آثار تذبذب أسعار النفط في المستقبل ولو بشكل أكثر قوة مما مضى. لن ينتهي مورد النفط بشكله المباشر مهما تنوعت مصادر الدخل، لكننا سنقلل مساهمته ونقلل بالتالي تأثيراته.
ما يجب علينا أن نعلمه أنه وفور تشغيل مشاريع الصناعات الكبرى، فإن هذا لا يعني بَدْء الدخل المباشر لموازناتنا الحكومية؛ لأن صافي الدخل هو ما يدخل الموازنات، وسنظل نتحمَّل بشكل مباشر أو غير مباشر جزءًا من تمويل التشغيل المؤقت حسب حصتنا في رأس المال لهذه الشركات والصناعات؛ سواء عن طريق الشركة المالكة للمشروع أو عن طريق المُلاك مباشرة، لكننا بالطريق الصحيح لنحصد هذه الاستثمارات الكبرى لصالح موازناتنا واقتصادنا، فكل عام يقل الاعتماد فيه على الملاك ومصارفهم لتتحول الشركات والموارد باتجاه استقلالية تامة للتمويل، ثم تُصبح الشركات المالكة مُوزِّعة للأرباح، وهنا تظهر الآثار المباشرة على الموازنات الحكومية جهة الإيرادات، وتنمو الأصول الحكومية نتيجة قيم الشركات وقيم أصولها المختلفة.
وستدخل هذه الإيرادات خلال السنوات الخمس المقبلة تدرُّجًا بجانب الإيرادات الحالية وجزء من تكاليفها الرأسمالية إن وجدت بجانب المصروفات التشغيلية والرأسمالية، وكل ذلك جيد لأننا نقترب كل عام من تقليل الإنفاق الرأسمالي للمشاريع الكبرى ورفع الإيرادات القادمة من تشغيل مشاريع ضخمة أنفق عليها خلال الخطة التاسعة. بل وستكون السنوات المقبلة ومع توقعات نمو الإنفاق المحدود لأن سياسات تنظيم كفاءة الإنفاق مهمة، إلا أنه وفي الوقت ذاته ستنمو الإيرادات بشكل أسرع.
بالجانب الأهم هناك مدخلات عديدة اقتصادية واجتماعية تُؤكد أننا بالطريق الصحيح، المراسيم والتوجيهات والأوامر السامية الآخيرة كلها تتجة لتعديل كفة الإنفاق وترشيق دور الحكومة لتتماشى مع نسب المعدلات العالمية للموظفين العموميين لكل الموظفين بالسلطنة الغالية، والعمل وفق أفضل الممارسات (جهاز عمان للاستثمار مثالا) والمراسيم المتعددة في شأن تنظيم العمل المؤسسى بمنهاج هيكلي فاعل (المكتب الخاص مثالا).
وسيشهد نتاج هذه المراسيم والتوجيهات والقرارات المنفذة لها لتتشكل الديموغرافية الاجتماعية للموظفين إجمالا والموظفين بالقطاع العام بشكل خاص؛ وذلك في شأن معادلة أكثر اتزانا لعدد الموظفين بالقطاع العام إلى عدد الموظفين إجمالا، وكذلك متوسط عمر الموظف بالقطاع العام الذي سيمضى لصالح متوسط عمر أصغر بين الموظفين المتبقين على رأس العمل، فيما سيزداد متوسط العمر شبابا أكثر، مع فتح المجال لتوظيف أعمار أصغر من الشباب والشابات من أبناء هذا الوطن حسب حاجة حقيقية للوظائف تستند إلى معدلات عالمية صحيحة لعدد الموظفين العموميين إلى عدد الموظفين إجمالا، وكذلك حسب معدلات وطنية مستهدفة، وكذلك حسب معدلات عالمية لعدد الموظفين العامين بالقطاع العام إلى عدد السكان وهذه موشرات عالمية معروفة. ليس هناك شك في أنَّ التوجهات بإشراك أكبر للقطاع الخاص يجعلنا نتجه أكثر لكفاءة التوظيف الحكومي المتَّفِق أو المتقارب مع المؤشرات العالمية، وتقليله كلما انتعش القطاع الخاص أكثر ليصنع وظائف النمو ومضاعفات الابتكار.
وقد يتساءل أحدهم وكيف يكون حال من أكمل ثلاثين عاما ويخرج بعضهم وهو مديون، وهذه ثقافة آيلة للانتهاء مع أجيال قادمة تعلم أن موضوع ضمان الدخل ذاته بعد الستين ليس مضمونا، وأنَّ التنظيم المالي والوظيفي والطموحات المستهدفة للأفراد والموظفين العمومين وبالقطاع الخاص يجب أن تضع بالحسبان تواريخ ينتهي معها الدخل الثابت المتنامي، فيخططون حسب ذلك مند بدايات مراحل تخصُّصهم المهني بعقلانية وتنظيم.
ومع علمنا بأنَّ المتقاعد لحياة جديدة بها كذلك فرص كثيرة ومتعددة، سيتحصل أولا على راتب تقاعدي جيد، وسيتمكن من الحصول على فرص لتطوير أعمال تجارية أو التركيز على منتجات حرفية أو العودة لتنشيط قطاعي الزراعة والثروة السمكية بقريته، وهما من قطاعات التركيز بخطة عمان 2040، أو يتحول لاستشاري مرموق مستندا لخبراته وعلاقاته المهنية أو يتجه لأعمال تخصصية متعددة أو يعمل ببعض الأعمال المؤقتة، آخذين بالحسبان أنَّ كل من أتى من خارج مسقط عائدا لسكنه الأصلي كمثال سيوفر نسبة جيدة من مصاريفه بالعودة لمنزله بولايته الجميلة، ولن يدفع تكاليف المدن الباهظة، وكم من أشخاص مروا عليَّ شخصيا وقد ظنوا أن مورد رزقهم توقف قبل سنوات عديدة، لكنهم بإصرارهم فتحوا أعمالاً ضاعفت من دخولهم بشكل مميز، وأصبحوا يشجعون على اغتنام فرص الوطن المتعددة مستندين لخبرات سنوات جيدة.
يقول لي صديق عزيز -وهو مسؤول بإحدى المؤسسات- قبل سنوات إنه وجَّه بدراسة عاجلة لتمديد عُمر من أكملوا الستين من أعمارهم بالوظيفة ليتمكنوا من البقاء بوظائفهم لسنة أو سنتين أخريين، أملا في سداد كامل مديونيتهم. وقال لي إنه بذات الوقت كانت ملفات الباحثين عن عمل بمكتبه كبيرة بعددها، وكان يرى ترددَ الشباب والشابات على مؤسسته للبحث عن فرص عمل بشكل يومى، وأن متوسطات الأرقام لديه كقطاع لا تبعث وظائف إضافية؛ فالعمل يتم وفق أفضل الأعداد المطلوبة بذلك القطاع إقليميا، وإذا زاد عدد الموظفين عن النسب لتحقَّق توظيف أكثر من الحاجة ولبدأ التكدُّس الوظيفي الذي يخلق ارتدادات لأزمات متعددة؛ منها: التواكل وقلة معدلات الإنتاجية وبيروقراطية الإعداد وتأثيرات غير العامل على العامل في بيئة العمل، والتردد الإنتاجي، والدوران الحلزوني لمنشطات الإنتاج...إلخ. فيقول لي لم أتوانَ للحظة، بل حملت الطلبات لمن هم فوق الستين القليلة، وملفات طلبات التوظيف الجدد وعددهم كبير، لمتخذ القرار، فقرر أن يتم المضي مع التقاعد حسب القانون، وفتح المجال لتوظيف كفاءات جديدة من الشباب والشابات بتلك المؤسسة.
تتحدَّث الأرقام والنسب عالميًّا عن معدلات معقولة للموظفين بالقطاع العام مقابل إجمالي عدد الموظفين بالدولة محل البيان، فالنروبج مثلا كمتوسط تبلغ النسبة 30%، فيما تبلغ النسبة بدولة كاليابان 6% من موظفيها يعملون بالقطاع الحكومي وما يصل إلى 10% في ألمانيا، ويُقرأ من الأعداد الأكبر للموظفين بالقطاع الحكومي أن الناس بتلك الدولة تعتمد على الخدمات والإنفاق الحكومي وتوفير خدمات مباشرة من الحكومة؛ وبالعادة فإن هذه الخدمات مكلفة ومرهقة على الموازنات الحكومية، ورغم أن البعض يستسيغها كرسالة جميلة في شكلها العام؛ لأنها تحث الدول على تقديم خدمة مباشرة للمواطنين والمقيمين، لكنها خطيرة ومكلفة ومحجمة لنمو القطاعات؛ لأن تكاليفها تصبح عبئًا خطيرا لا يمكن استمرار تمويله، خصوصا بدول تعتمد على موارد نفطية أو معظم تمويلها يأتي من قطاع أو قطاعين هما النفط والغاز، وهذين القطاعين قرار سعرهما وحجم إنتاجهما وسياسات بقائهما واستدامة الاعتماد عليهما بيد قرارات سياسية واقتصادية إقليمية وعالمية، وحين تتحمَّل الدول ما لا تطيق من أجل تمويل كل شيء فتصل لموازنات إنفاق ضخمة لا تتمكن من تمويلها فتدخل في مديونيات متواصلة إلى أن تصل إلى مديونيات كسر الظهر، وهنا تتحول الدول واقتصادها إلى قشات هزيلة تندثر وتطير فتتحكَّم بها مصارف تمويل وقرارات تحجيم ممن هم مصرفيين أصلا، ورغم أن المصرفيين هم عماد اقتصاد التمويل والنمو التمويلي كنقد وفائدة وموازنات مصارف -وقد كنت شخصيا منهم لسنوات طويلة- إلا أنهم ليسوا بذات الأداء والعطاء عندما يكون الأمر استثمارات إستراتيجية، خصوصا عندما نتحدث عن المنطقة؛ لأن سياسات المخاطرة لديهم لها توجُّس وخوف، ولا يتقدم استثمار إلا بنسبة مخاطرة معينة؛ وبالتالي يكون عنصر المخاطرة مرفوضًا ومترددا بسبب ثقافات الصيرفة التقليدية لدينا.
اليابان من أقل الدول تقريبا كعدد موظفين عموميين لعدد الموظفين إجمالا، وهذا يخبرك بأنَّ الاقتصاد الياباني كقطاع خاص ممتاز يعمل وفق أكبر عطاءاته، وأن القطاع الخاص هو المشكل الأكبر للاقتصاد الياباني بلا هوادة؛ فالتجربة اليابانية في شأن نمو القطاع الخاص بشكل كبير وتنوع موارده مدعاة للاهتمام من العالم لأنها تجربة ثرية حققت أهدافا مميزة ويستوجب التعمق في فهمها وفهم تلك الجدية العارمة في تحقيقها.
وبما أن أهداف رؤية عمان 2040، والخطة الخمسية العاشرة 2021-2025 تتجه كلها باتجاه شراكة أكبر مع القطاع الخاص، فإن القطاع الخاص يريد أن يرى ترشيدا بالإنفاق ليكون الإنفاق ضمن معدلاته الطبيعية، وكذلك توسعا أكبر بالشراكات (الصحيحة المتكاملة)، وهذا سيحقق تفاعلا أكثر من القطاع الخاص للشراكات الأستراتيجية، فضلا عن ذلك فإن المال العام هو أموال خزينة عامة للدولة يستوجب الإنفاق منها أن يكون مدروسا، ووفق ممارسات عالمية صحيحة، ليتحقق أفضل عائد استثماري واجتماعي واقتصادي وتمويلي لصالح الاقتصاد الوطني والوطن بأكمله، ولتتحقق أرضية أكثر رشاقة وديمومة واستدامة لعلاقات إستراتيجية بين القطاعين العام والخاص، تخلق تعاونا أكثر نموًّا واستدامة ونجاحا، في ظل أهداف واضحة شكَّلتها رؤية عمان 2040، وسيكون بإذن الله تحقق الهدف الأسمى "عُمان في مصاف الدول المتقدمة".