التحديات التي تواجه عمان (7)

كيف تعقَّدت مشكلة الباحثين عن عمل؟

 

مرتضى بن حسن بن علي

تعدُّ مشكلة الباحثين عن عمل مشكلة مُعقدة وخطرة، تستوجب الاهتمام بها، أعدادها في تزايد مستمر، وبدأت تصيب خريجي التعليم العالي، وهي تزداد تعقيدا خارج محافظة مسقط؛ إذ بلغت نسبتها 87.5% مقابل 12.5% في محافظة مسقط، في نهاية العام 2018.

المحاولات السابقة لإيجاد حلول لها زادتها تعقيدا، ومحاولات الخروج من الأزمة زادتها ابتعادا؛ لذلك من المهم فهم السياسات التي اتُّبِعت عند ظهور المشكلة وبعدها قبل محاولة البحث عن الحلول الممكنة.

بدأت ْ المشكلة في بداية التسعينيات، والسياسات التي اتُّبعت والخطط المتتالية التي وُضعت، كان لها ما لها من إنجازات، وعليها ما عليها من إخفاقات، ومن أهم الإخفاقات: عدم تنويع مصادر الدخل، والتضحية بنظم التعليم والتدريب، وعدم إيجاد قطاع خاص كبير ومنتج، والتوظيف في القطاع العام كحل ترقيعي، والاعتماد على القرارات الإجرائية دون الاطلاع على مسببات المشكلة، وعدم التنسيق بين الوزارات المختلفة، وانعدام مبدأ المساءلة والمحاسبة، وربط الراتب بالشهادات وليس بالمهارات، وكان من نتائجها إسراع العديد من المواطنين للحصول على المؤهلات الجامعية لأسباب تتعلق بالوجاهة، ولاحتلال المراكز الوظيفية المرموقة، ونبذ التدريب على المهن الفنية، وترسُّخ النظرة الدونية لها، وهي وظائف يحتاجها المجتمع لاستكمال بنيانه، لكي يواكب المجتمعات الأخرى.

في حين ذهب العديد للحصول على صكوك التعليم العالي وما بعده، بشكل دفع بالآخرين للسعي لنفس الاتجاه، بغض النظر عن احتياجات السوق؛ مما أدى لفقدان الصكوك أهميتها، وإلى إهمال الكيف والاهتمام بالكم، صك التعيين وصك الوجاهة الاجتماعية، أصبحا عبئا على حامليهما، لما يتطلباه من مظهر يُجبرهم على سلوكيات هم أصلا لا يملكون توفير تكلفة مظاهرها.

هذه السلوكيات تضع عليهم قيدا أدبيا اجتماعيا للتدريب على مهنة أقل قيمة في نظر المجتمع، وما زالت سياسة إصلاح النظام التعليمي والتدريبي تخضع لأفكار مختلفة، تُفسد التعليم أكثر مما تصلحه، وفي نفس الوقت كان النظام الاقتصادي يسير أكثر فأكثر بالاعتماد على ريع النفط، وكلما زادت أسعاره، ازدادت شهية الإنفاق، وأصبح السوق العماني يفتقد أكثر فأكثر لمهن وحرف فنية هو بحاجة إليها.

في بدايات النهضة، بدأت الحكومة بتنفيذ مشاريع كبيرة، وأوجدت طلبا على عمالة كثيفة ورخيصة، وازدادت طرديا مع زيادة حجم الإنفاق زيادة الخدمات والميول الاستهلاكية، والتي دفعت بدورها إلى جلب مزيد من العمالة... وهكذا دواليك.

كان من الممكن أن تكون التنمية أبطأ لكنها مُستدامة، حين يمكن جلب أعداد أقل من العمالة الوافدة، وفي نفس الوقت إتاحة المجال لإعداد القوى العاملة الوطنية لتكون ذات مهارات عالية، والقيام بمكننة العديد من الأنشطة، وفي الوقت الذي كان يتمُّ فيه سن القوانين والإجراءات لتعمين الوظائف والتقليل من أعداد العمالة الوافدة، فإنَّ ما كان يتم على أرض الواقع كان يسير عكس الاتجاه، فطرح المشاريع الضخمة استدعى جلب مزيد من العمالة الوافدة.

ومن ناحية أخرى، فإنَّ القطاع الخاص بقي إلى حدٍّ كبير خدميًّا، ولم يتطور كثيرا لإنتاج السلع لأجل تقليل الواردات، وتعظيم الصادرات، وتنويع مصادر الدخل، وخلق فرص عمل للمواطنين، فالنفط كان وحده مُحرِّكا للإنفاق، كل ذلك أوجد تشوهات كثيرة في طريقة نمو القطاع الخاص وفي سوق العمل أيضا.

افترضت السياسات التي اتُّبِعت مثل فرض نسب التعمين أو صعوبة تسريح المواطنين من وظائفهم، أو سياسات الحد الأدنى للأجور، بأنها سوف تعطي ثمارها دون أن تدرك طبيعة المشاكل الهيكلية الموجودة. تصوَّرت هذه السياسات أن قدرا قليلا من التدريب على بعض المهن المطلوبة، قادر أن يوفر التشغيل، ويكفل الإنتاجية، غير أن الواقع سُرعان ما برهن أن ما تمَّ تبنيه من سياسات وقوانين لم ينجح في حل مشكلة توفير الوظائف، ولا في مد السوق بكوادر مدربة؛ فالتهيئة الصحيحة كانت تتطلب إعدادا أوسع نطاقا يشمل التعليم والتدريب بمختلف مراحله، وغرس مفاهيم وأخلاقيات العمل، وفي الوقت الذي وُضعت فيه سياسات التعمين لتوفير العمل للعمانيين والتقليل من أعداد القوى العاملة الوافدة، فإنَّ سياسات طرح المشاريع الضخمة سارت في عكس الاتجاه، وأوجدت طلبا مستمرا لجلب المزيد من القوى العاملة الوافدة.

جهود التدريب، مثل جهود التعليم، واجهت معوقات عديدة؛ كان أهمها: قصور في الفهم والإدراك لما يجري، نجم عنه انعدام الرغبة بالاستعانة بأهل الخبرة، والنقص في مدخلات التدريب، والافتقاد للتخطيط السليم، وعدم خلق الوظائف في المحافظات خارج محافظة مسقط، وعدم القدرة على التنبؤ بالاحتياجات المتغيرة، وعدم مشاركة القطاع الخاص والمهتمين الآخرين بهذا الشأن، والنقص في الكوادر الفنية والإدارية المؤهلة لدى جهات التدريب نفسها، وانعدام المكننة للتقليل من الأيدي العاملة الوافدة. قوانين العمل ذاتها عرقلت عملية توظيف المواطنين، كان من الاستحالة أن تستطيع وزارة القوى العاملة وحدها توفير فرص العمل المجزية، وليس من الإنصاف توجيه اللوم لها وحدها، فهي عملت بقدر ما تقدر عليه.

الخطأ في معادلة التعمين هو: الانخراط في سياسة "ردود الفعل" دون الاهتمام بتنمية الجوانب النوعية للتعليم والتدريب، أو الاهتمام الكافي بإيجاد ربط بين الحلقات الاقتصادية والاجتماعية والإنتاجية، فإدارة الأزمات وقتيًّا كانت هي السياسة المفضلة، فبدلًا من إيجاد حلول للمسببات التي أدت إليها جذريا، تم تجاهل إعطاء الأولوية للأدوات والقرارات الاقتصادية والتنموية والتعليمية والتدريبية الهادفة لتصحيح سوق العمل.

تمَّ الاعتماد في تنظيم سوق العمل بشكل شبه مطلق على الضوابط الإدارية والإجرائية، في شكل قرارات منظِّمة للسوق أو ضابطة لقواعد منح المأذونيات، وضاغطة على تحديد الحدود الدُّنيا للرواتب أو منع الوافدين من القيام بممارسة بعض المهن، وكلها لم يُحالفها الكثير من النجاح في توفير وظائف مجزية للمواطنين، كما دفعت ببعض الشركات بنقل بعض أنشطتها المتعلقة بالتصاميم وأنظمة المحاسبة والإدارة إلى الهند؛ لإنجازها هناك Online عبر الإنترنت.

أصبح مُهمًّا "الآن" القيام بإجراء تغيبرات كبيرة في المفاهيم والسياسات والأنماط الإجرائية والسلوكية؛ بما يحقق تحسُّنا مُستمرا قابلا للقياس والتقييم، ومن ضمن ذلك: تغيير المفاهيم المتعلقة بالعمل؛ لكي يشعر كل موظف بأنَّ الوظيفة ليست مصدرا للرزق والعيش الكريم فقط، وإنما هي أيضا مجال للتطوير والتغيير إلى الأحسن عن طريق نمو المهارات، وأن الراتب يجب أن يكون على قدر الإنتاجية والترقية، ومن الآن وصاعدا لا يمكن الحصول عليه بصورة تلقائية، وكل ما يلزم هو عامل الوقت فقط، كما أنَّ المحاسبة على التقصير في العمل والاستغناء عن الخدمات يجب ألا يكون وسيلة يَندُر استخدامها، خصوصًا عندما يكون السبب في عدم الرغبة بالعمل، أو عدم الامتثال للقوانين والأنظمة، أو عندما يتسبب الموظف بالإضرار بالمؤسسة التي ينتمي إليها.

إيجاد فرص العمل المجدية للمواطنين عملية ضرورية وواجبة أيضًا، ولها أبعاد أمنية ووطنية واقتصادية؛ لأنَّها تدعم استقرار البلد، وتساعد على خلق طبقة متوسطة متزايدة، تشكل صمام الأمان لرخاء البلد، ولتحقيق نجاح كبير في عملية إصلاح سوق العمل، يجب أن لا تتحول هذه العملية إلى شعار عاطفي أو تأجيج الناس ضد القطاع الخاص أو الوافدين؛ لأنَّ ذلك سوف يكون مثل الإبرة المُخدِّرة التي تقلل الألم مؤقتا دون أن تعالجه، والعاطفة وحدها قصيرة النفس، تستطيع مؤقتا توفير بعض فرص العمل، أو تلبي بعض الاحتياجات، غير أنها سوف تشجع على الخمول وتدني الإنتاجية.

مِنَ المهم أنْ لا تخلو قلوبنا من الحماس، ولكن الأهم أنْ لا تسيطر العاطفة وحدها على تفكيرنا، نحن بحاجة لتغيير شامل وعميق في النظاميْن التعليمي والتقني، واعتبارهما خطَّ الدفاع الأول لمستقبل وطننا، وسلامته وأمنه واستقراره، وإعادة هيكلة الاقتصاد على قاعدة "اقتصاد السوق"، وتنويعه، وبناء وسائل الإنتاج المتنوعة.