علي بن مسعود المعشني
التقاعد بلا شك هو مصير كل موظف في نهاية حياته الوظيفية، والحديث عن التقاعد في سلطنتنا الحبيبة هو حديث ذو شجون، والحديث به وعنه لم يعد فرض كفاية، بل فرض عين لأهميته وحساسيته ومساسه بشريحة واسعة من المجتمع.
والحديث عن التقاعد اليوم، وفي زمن كورونا بالتحديد، ومع تذبذب أسعار النفط، يأخذ عمقًا آخر، ويحتاج إلى قراءات واسعة؛ ليس لأنه قرار مباغت كما يصفه البعض، بل لكونه قرارًا لابد منه، لكنه ورد في وقت استثنائي، وقت تداخلت فيه الأمنيات مع الآمال العريضة بتحسُّن الظروف المعيشية مع جعجعة قديمة جديدة، عنوانها دمج صناديق التقاعد مع ضجيج توحيد الرواتب في القطاع العام، لتصطدم جميعها بانهيار أسعار النفط، ثم تلته جائحة كورونا، فتحولت بوصلة الضجيج إلى كيفية معالجات النفط وكورونا، ونسينا الآمال والأماني وتأجلت إلى حين.
يقول المثل: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، ومعركتنا اليوم في سلطنتنا الحبيبة تتمثَّل في كيفية عبورنا نفق الأزمة المالية الحادة والمُركبة "نفط/كورونا" أولًا، ومن ثم يسهل علينا الحديث عن جميع الآمال والأمنيات المؤجلة.
المجتمع اليوم مُنقَسِم إلى مصدوم بقرار التقاعد ويسوق حججًا كثيرة لتبرير صدمته، وإلى مترقب للإحلال من فئة الباحثين عن عمل، والحقيقة أنَّ الظرف الاستثنائي للقرار يهدف لشيء واحد فقط وهو ضغط الإنفاق الحكومي وتوفير سيولة لخزينة الدولة لتشكيل حزمة إنقاذ تواجه الأزمة الطارئة وتحافظ على الحد المعقول من اقتصاد الدولة.
جميعنا يعلم أنَّ القطاع العام تشبَّع بالتوظيف إلى حد التُّخمة التي أقعدته عن الحركة والتفكير معًا، وهذا من نتائج عشوائية التوظيف التي أقرتها الحكومة عام 2011 دون وعي ولا تخطيط، وبالنتيجة بروز حالة جلية للبطالة المُقنعة في القطاع العام أوجبت التفكير الجاد في التنفيس عن كاهل هذا القطاع الذي تحول إلى ضمان اجتماعي بكل المقاييس لعدد كبير من المواطنين بمسمى وظائف وموظفين.
المشكلة الحقيقية التي قد لا يعلمها أو يستنتجها الكثير منا هي أن الحكومة ومنذ فجر النهضة المباركة ولغاية اليوم اختزلت الدولة في ذاتها، ولم تكتفِ بتسويق نفسها بأنها السلطة التنفيذية والتشريعية والرقابية، بل والسلطة الرابعة والإعلام، بل امتد ذلك الدور التسويقي إلى أن أصبحت الحكومة هي الوظيفة وهي القطاع الخاص وهي الضمان الاجتماعي والعلاج والتعليم... إلخ.
هذا الدور الكُلي الشامل للحكومة جعلها في نظر المواطن هي كل شيء -وهو الواقع- وبقية أدوات الدولة مجرد كومبارس أو ظل باهت للحكومة فقط لا غير.
نحن اليوم في أمسِّ الحاجة إلى فك هذا الاشتباك الخطير ما بين الحكومة والدولة وأطيافها أولًا، لننتج مؤسسات مسؤولة واضحة المعالم والمهام والصلاحيات، من مؤسسات تشريعية ورقابية وجمعيات أهلية تمثل وعي المجتمع ومسؤولياته. كما يجب ألا ننسى أن فك هذا التداخل الخطير والمشتبك سينتج لنا قطاع خاص حقيقي ينمو بقوة وثبات ويكون عونًا للحكومة والدولة في النوائب.
الحكومة اليوم في أمس الحاجة إلى ترشيد الإنفاق وتخفيف الكادر الوظيفي تناغمًا مع رؤية "عمان 2040" أولًا، وأزمتي النفط وكورونا ثانيًا.
الأوامر السامية بتخصيص 300 مليون ريال لمشروعات تنموية رغم الأزمة يُشير إلى الشعور المسؤول بأهمية إنعاش الاقتصاد الوطني من الركود الذي ألمَّ به، كما أن هذا المبلغ "رغم تواضعه"، فتوظيفه بمهنية وعلى محافظات السلطنة سيخلق نتائج محمودة على عدد من المؤسسات والأنشطة والأفراد. متأملًا -وبشكل شخصي- سرعة إشهار الشركة الوطنية للمنتجات الزراعية والثروة السمكية كحاضن كبير لاستقبال وتسويق المنتجات الزراعية والسمكية والحيوانية وتسويقها بداخل السلطنة وخارجها، مع ضخ مبالغ في أدوات التمويل وتوحيد جهودها وهيكلة شروطها ومهامها، وهذه الخطوة كفيلة بفتح آفاق العمل لعدد كبير من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والأفراد في هذا القطاع الحيوي المهم، خاصة وأن هذا القطاع يُمثل ركنًا مهمًّا من أركان الاقتصاد التقليدي في السلطنة قبل النهضة المباركة، ومورد رزق لشرائح كبيرة في المجتمع العُماني، يُضاف إلى تلك الملاحظة المهمة، مارأيناه من إنتاج وطني معتبر من منتجات زراعية وسمكية وحيوانية فترة الحظر الكوروني؛ الأمر الذي لم يُشعرنا بأهمية الاعتماد على النفس وتنمية مفردات الأمن الغذائي فحسب، بل ودعم تلك الجهود الخيِّرة وتوسيع دائرتها والمنتمين لها.
وبالعودة لقرار التقاعد، أقول إنَّ سريان القرار في نهاية العام الجاري، وفي ظل الأزمة المُعاشة، يعتبر قرارًا إنسانيًّا جدًّا ومدروسًا بعناية؛ فهو راعى المتقاعد وأمهل صناديق التقاعد وخفَّف عنها المباغتة، ويترقب أي تحسُّن يطرأ خلال النصف الثاني من العام وإلى نهايته ليبني عليه قرارات لاحقة تراعي ظروف جميع مفردات دائرة التقاعد من مؤسسات وأفراد وصناديق تقاعد وبنوك.
ما أتمنَّاه حقيقة أن يكون التقاعد -وكما طالبت كثيرًا- حيويًّا وجاذبًا، حتى يخدم التوظيف والقطاع والمتقاعد معًا بلا ضرر ولا ضرار، وأن يتم التسريع بدمج صناديق التقاعد والتأمينات ومراجعة قوانينها وتوحيد الرواتب في القطاع العام والعسكري والشركات الحكومية والهيئات، وأن يمتد إلى البنوك والقطاع الخاص كذلك حتى يُصبح الطرد والجذب هو مناخ العمل والإنتاجية والجودة، وليس الراتب فقط. كما أتمنى أنْ يُجبَر ضرر المتقاعدين السابقين جميعهم؛ بحيث يجُب القانون الأخير ما قبله من القوانين، ويُلحق السابقين باللاحقين في المعاملة تلقائيًّا، فليس من المعقول أن يجد الموظف راتبه التقاعدي بعد أكثر من 20 عامًا من العمل هو ذات الراتب الذي كان يتقاضاه في مستهل حياته الوظيفية، وليس من المعقول أن يتفاوت شخصان في الرواتب وكلاهما تقاعد بنفس الدرجة والمدة، فقط لكونهما تقاعدا على قانونيْن مختلفيْن في الزمن، كما أنَّ الهامش متاح لنا للمناورة الإجرائية في مساعدة المتقاعدين في التغلب على الظروف المعيشية كتأجيل تحصيل جميع الأقساط لمدة عام كامل، ومنح المتقاعد بطاقة خصومات لشراء المواد الغذائية والمحروقات والمشافي الخاصة والفنادق...وغيرها، وكذلك ضرورة سريان العلاوة السنوية لتغطية جانب من غلاء المعيشة، والتي تزداد بوتيرة سنوية دائمة.
وبالشكر تدوم النعم...،
-----------------------
قبل اللقاء: التقاعد اختزلته عُقولنا وثقافتنا بالعقاب والتهميش؛ فكان هذا إطارًا للمشرِّع والإدارة معًا، بينما التقاعد في حقيقته مكافأة وحياة جديدة للإنسان.