سالم بن نجيم بن محمد البادي
لا حديثَ يعلو فوق الحديث عن التقاعد هذه الأيام، خاصة عند الفئة المستهدفة من التقاعد الإجباري، ولن أخوض في المعارك المؤيدة والمعارضة، ولا في التعليقات الساخرة والنكات، وربما فرحة الباحثين عن عمل، وصرخات من قبيل "بسكم" و"يسدكم" و"خلوا الفرصة لغيركم".
سأروي حكاية مُعلِّم تمَّ تعيينه في المدرسة القريبة من بيته في ذلك الزمن الجميل، كان ثاني عُماني في المدرسة، والبقية كلهم من الوافدين، وأنعم بهم وأكرم، ومن حيث أنه مطيع وهادئ وخجول ودمث الأخلاق وسيماء الالتزام الديني بادية على مظهره، ويحظى بالاحترام والتقدير من الجميع، ولا يستطيع قول كلمة لا ليس خوفاً لكنه الحياء، كان يقوم بأعمال كثيرة: شغل ثلاثين حصة لمواد مختلفة، ورائد صف، ورائد منفذ، والرائد المنفذ يؤدي المهام التي يقوم بها مساعد المدير اليوم، ويشرف على الأنشطة المدرسية والحفلات في المناسبات المختلفة، وحفلات العيد الوطني، وفي أعمال الامتحانات والكنترول وتصحيح الامتحانات، الذي كان يتم في المدرسة؛ حيث يُمنع تصحيح الامتحانات خارج المدرسة، وكتابة الدرجات في كشوف كثيرة وطويلة وعريضة وسجلات مختلفة، وكتابة الشهادات، ومن أعماله التواصل مع الأهالي، يذهب احياناً إلى بيوتهم لحل بعض المشكلات الطلابية، ويستقبل الأهالي في المدرسة، وهو دائماً مع مدير المدرسة (في وش المدفع) في مواجهة بعض الأهالي، يأتيه الكلام الجارح والنقد والأقاويل الباطلة والشائعات الكاذبة، وكل مصيبة تقع على رأسه، وكل أحوال الطلاب، حتى إنه قد يتدخل -وبطلب منهم- في أدق التفاصيل والمشاكل العائلية، وقد يتصدق على الفقير منهم دون أن يعلم به أحد، وإن مرض أحد الطلاب أو أصيب في الملاعب يذهب به فوراً إلى مستشفى الولاية والتي تبعد 45 كيلومترا؛ حيث لا يوجد هاتف للتواصل مع الأهل، أو أنَّ الآباء يعملون في أماكن بعيدة أو في دولة الإمارات.
هو كثيرا ما يأتي إلى المدرسة في غير أوقات الدوام، ويظل بها حتى وقت متأخر من الليل لتنفيذ بعض الأعمال حتى نظافة المدرسة، والمساهمة في بعض الأعمال التجميلية، هذا غير الإشراف على معسكرات العمل في بعض أيام الإجازات، وقد يقوم ببعض أعمال عامل النظافة العماني المسن، الذي يأنَف من بعض الأعمال كنظافة دورات المياه، وفي اجتماعات مجلس الآباء يكون عليه الدور الأكبر في الرد على استفسارات الأهالي ومداخلاتهم، وفي بعض الأحيان كان يُنتدب للتصحيح في مناطق تعليمية بعيدة، يظل أياماً في جلسات تصحيح طويلة صباحية ومسائية، وعن هذه الفترة يحكي قصة طريفة عن الطعام الذي يُقدَّم لهم، ومع الهدوء الذي يتميَّز به قاد الاحتجاج على قلة الطعام، خصوصا الخبز، رغيفين فقط لكل فرد، حتى تدخَّل مدير عام تلك المنطقة، وكان هذا المعلم سبباً في زيادة الكمية.
ومن أعماله: خدمة زملائه الوافدين، يذهب بهم إلى مركز الولاية للعلاج أو التسوق والاتصال بذويهم، وفي القرية التي تقع بها المدرسة لا توجد هواتف عمومية في تلك الأيام، وفي سيارته البيكاب غمارة واحدة يذهب أحياناً إلى مكتب التربية والذي يبعد أكثر من 100 كيلو عن المدرسة لإحضار الكتب والوسائل التعليمية والأثاث المدرسي من كراسي وطاولات، وغير ذلك، وإحضار المراسلات من صندوق بريد المدرسة، ثم الرد على هذه المراسلات، ويشاهد وهو يتنقل بهمة ونشاط بين الموظفين والدوائر في مكتب التربية لتسليم الردود على المراسلات، حاملاً أوراقا كثيرة وسجلَ الصادر والوارد، طالباً من أصحاب الشأن التوقيع على استلام الرسالة في سجل الصادر، وقد يُمثل مدير المدرسة في حضور الاجتماعات، وهو ينوب حتى عن حارس المدرسة إذا واجهته ظروف قاهرة ولفترة قصيرة، ويفعل ذلك مع سائق السيارة التي تنقل الطلاب، على سبيل التعاون في بعض الأحوال، وهو مناوب طوال اليوم الدراسي في الفسحة وبين الحصص، وعند الجمعية التعاونية، وفي أيام الأمطار، وحيث إنَّ المدرسة تحيط بها الجبال وتمر بها العديد من الأودية، يبقى قلقًا ومتابعاً، حتى يتأكد من أن جميع الطلاب قد وصلوا سالمين إلى بيوتهم، وحين فرضت مسابقة المحافظة على النظافة، زاد عمله وكبرت مسؤولياته، وقبيل القرعة يشتد العمل ويعلن ما يشبه حالة الطوارئ في المدارس: إنجاز مشاريع متنوعة، ومعارض، ونظافة مستمرة، وتوعية الطلاب بأهمية النظافة، وأهداف المسابقة، وليلة القرعة سهر طويلًا، ومن تقع عليه القرعة من المدارس يهب الجميع لمساعدته، ويكون هو أول الذين يصلون للمدرسة المنكوبة بالقرعة، ويكاد لا يغادر مقوِّد سيارته يأتي بأشياء من هذه المدرسة أو تلك إلى المدرسة التي وقعت عليها القرعة، وقد يصبر، ويتحمَّل انتقاد ولوم وتوبيخ أعضاء اللجنة المحلية للمسابقة إذا حصل أي تقصير في تلك الليلة المشهودة.
كانت أيامًا عصيبة والاستماتة للفوز في المسابقة بكل الوسائل والطرق، ومن ذكرياته عن مسابقة المحافظة على النظافة: أنَّ مدير المدرسة يطلب منهم كتابة عبارات عن المسابقة بالحجارة، وتُطلى باللون الأبيض؛ وذلك في الجبال المتاخمة للطريق الذي تمرُّ به اللجنة الرئيسية للمسابقة في عصرية شتاء باردة عبارات؛ مثل: النظافة من الإيمان، وعبارات ترحيبية، ولقد تأخرت ترقيات كثيرة لهذا المعلم، ومرت سنوات دون ترقية، لكنه لا يتبرَّم، بل يردد عبارة: "الحمدلله، نحن في نعمة وأحسن عن غيرنا"، ولقد نال هذا المعلم، ولا يزال، التقدير والحب من الذين كان يدرسهم، وهو الآن يدرس عيالهم، وأضحى قدوة ومثلاً يُحتذى به في الأخلاق والاستقامة والالتزام والإخلاص وحب العمل، بعيداً عن البهرجة وطلب الثناء والشهرة والسمعة، وأجره على الله.
إنَّ هذا وأمثاله يستحقون التكريم، وليس كثيراً عليهم مكافأة مجزية في نهاية الخدمة، وراتب تقاعدي يوفر لهم حياة كريمة، وتكريمهم وتقديم بعض المزايا لهم من المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص، وأحب أن أشير إلى أنَّ مثل هذا كثر، وأن زملاءه في تلك الفترة كانت لهم مثل هذه الأعمال الجليلة، وأكثر، وحكايته تنطبق على كل معلم ومعلمة في تلك الحقبة.